حضر المندوب السامى البريطانى فى مصر «سير الدون جورست»، إلى الخديو عباس حلمى الثانى يوم 10 نوفمبر 1908، وفى لقائهما الذى استمر ساعتين كانت القضية الأساسية فى نقاشهما هى استقالة رئيس النظار «الوزراء» مصطفى باشا فهمى، وتعيين رئيس جديد بدلًا منه، وفقًا لما يذكره أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس فى الجزء الرابع من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
ويؤكد «شفيق باشا» أن الاثنين تناقشا حول الشخصية التى تخلف «مصطفى باشا»، وتوجه الخديو إلى جورست بسؤال: «ما رأيك فى أن يكون بطرس باشا غالى رئيسا للنظار؟».. رد جورست بسؤال: «وهل يحصل انتقاد من الأهالى بتعيين رئيس قبطى؟».. أجاب الخديو: «إنه قبطى ولكنه مصرى».
يضيف «شفيق باشا»، أن الحال بينهما اتفق على أنه إذا تراءى تعيين بطرس باشا رئيسا للنظار فتبقى معه «نظارة الخارجية»، لكن الخديو بقى مشغولا بما أثاره «جورست» حول أن رئيس النظار قبطى، وظن معها أنه ربما طرحها كمبرر شكلى يقف وراءه رغبته الحقيقية فى أن لا يتولى «بطرس باشا» هذا المنصب الرفيع، وحتى يقطع الخديو الشك باليقين قال لجورست: «أنا لا أريد أن أضغط على فكرك من حيث تعيين بطرس باشا، فلنا أن نتروى فى هذه المسألة ونقرر نهائيًا ما يجب عمله».. رد جورست: «لا، لا أنا موافق منذ الآن».
هكذا استقر الاثنان على أن يكون «بطرس» رئيسًا للنظار كأول قبطى يشغل هذا المنصب فى تاريخ مصر الحديث، لكن مشكلة أن بطرس باشا غالى قبطيًا لم تكن هى الوحيدة فى لقاء الخديو بالمعتمد البريطانى، وإنما كانت هناك مشكلة تعيين قبطى آخر ناظرًا فى الحكومة، بالإضافة إلى الإبقاء على سعد زغلول.
يذكر «شفيق باشا» أن «جورست» عرض على الخديو اسم «سابا باشا» ليكون فى الحكومة الجديدة مكافأة على خدماته وتطبيقًا لخاطره لخروجه بصفة غير مرضية من إدارة البريد»، لكن الخديو رد: «أنا أحب سابا باشا وأرى فيه الكفاءة، ولكن وجود ناظرين مسيحيين لا يروق فى أعين الناس، وهنا سحب «جورست» اقتراحه».
انتقل النقاش إلى الإبقاء على سعد باشا زغلول «الذى كان وزيرا فى حكومة مصطفى باشا فهمى»، وكان السؤال: «هل يستمر فى الحكومة الجديدة؟.. يذكر شفيق: «تكلم جورست عن سعد باشا، فقال إنه مستاء جدا منه بالنسبة لجفاء أخلاقه فهو متكبر، كلامه قاس مثل الحجر، ولكنه إذا خرج مع الخارجين فربما يحصل منه ما يسؤونا، يعنى أنه خائف من لسانه وأعماله، فإذا استصوب الخديو يبقى مدة شهرين أوثلاثة ثم نعمل له طريقا لإخراجه».
واستمع الخديو جيدا لجورست، وبدا أنه موافق على كلامه حيث قال: «إن بطرس باشا قال لى: إذا طلب الإنجليز بقاء سعد فاتركه لى وأنا أعرف ما أفعله «لخروجه».
انصرف «جورست» من عند الخديو، ثم حضر مصطفى فهمى ليتقدم باستقالته، وفى 11 نوفمبر جمع جميع نظاره فى منزله وأخبرهم باستقالته وشكرهم، وحسب «شفيق باشا»: «حضر بطرس باشا فى 13 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1908، ومعه خطاب بتشكيل النظارة الجديدة وأمر بتعيين النظار وهم بطرس باشا للرياسة والخارجية، سعد زغلول ناظرًا للمعارف، إسماعيل سرى ناظرًا للأشغال والحربية، فخرى باشا ناظرًا للمالية، محمد سعيد ناظرًا للداخلية، حسين رشدى ناظرًا للحقانية».
وتعرض بطرس باشا غالى للاغتيال على يد إبراهيم الوردانى عضو الحزب الوطنى، فى 20 فبراير 1910، وظل دوره المشؤوم فى رئاسة محاكمة دنشواى باعتباره وزيرًا للحقانية يطارده، حيث قضى بإعدام أربعة من أهالى القرية الفلاحين فى محاكمة ظالمة بتهمة قتل جندى إنجليزى أثناء صيد الحمام «13 يونيو 1906»، وفى تاريخه أيضًا اعتماده مد امتياز قناة السويس 40 عامًا، وكانت تلك المسألة تحديدًا هى ما ذكرها «الوردانى» سببًا للاغتيال.
غير أن الخديو عباس الثانى يثنى عليه كثيرًا، قائلًا فى مذكراته «عهدى»: «كان إخلاصه للقضية السياسية لا يعادله سوى ذكائه الحاد، وقدرته غير المحدودة فى جميع الميادين، وكان رجلا عالميا، ولم يرتكب سوى خطأ واحد فى حياته وهو «دنشواى»، وكان تفكيره المبتكر والخلاق فى شؤون الدولة يعادل أمانته الكبيرة، وكان قبطيا بالديانة مصريا عميقا ودبلوماسيا متيقظا، وأخذته معى أثناء إحدى زياراتى للسلطان عبدالحميد «السلطان العثمانى»، فقال عنه: «أتمنى لمصر أن تكون لها الكثير من الرجال من مستوى هذا الناظر، والبعض منهم للباب العالى».