تلقى الدكتور بطرس غالى مكالمة تليفونية تطلب منه التوجه لمقابلة رئيس الوزراء ممدوح سالم، يوم 16 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1977، حسبما يذكر فى كتابه «طريق مصر إلى القدس».
كانت المكالمة بعد أيام قليلة من اختيار غالى وزيرا للدولة فى الوزارة الجديدة، كما كانت المكالمة بعد أسبوع من خطاب الرئيس السادات فى مجلس الشعب، يوم 9 نوفمبر 1977، الذى أعلن فيه استعداده للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلى، ويكشف غالى «أنه بمجرد انتهاء السادات من كلمته، اشترك مع وزراء وأعضاء من مجلس الشعب فى مناقشة ما قاله الرئيس، يؤكد: «كان اعتقادى أن الرئيس أحرز كسبا دعائيا، ولكن عزمه على الذهاب إلى إسرائيل لا أساس له من الواقع».
يذكر: «عرفت بعد ذلك أن السادات، قبل أن يلقى كلمته، كشف لبعض المقربين منه أنه يفكر فى إعلان عزمه على الذهاب إلى القدس كوسيلة للتغلب على المأزق الدبلوماسى، لكنهم عارضوا الفكرة بشدة، وأعد السادات كلمة لم تتضمن أية إشارة إلى القدس، وأعطاهم الانطباع بأنه قبل وجهة نظرهم، لكنه عندما بدأ يلقى الكلمة، خرج فجأة عن النص المكتوب وتكلم ارتجالا، وأعرب عن استعداده للذهاب إلى الكنيست، وأصيب مساعدوه بالدهشة والفزع».
يكشف غالى، أن ممدوح سالم بمجرد مقابلته طلب منه بطريقة غريبة وبها شىء من التباهى أن يذهب فورا إلى قصر العروبة، مقر حسنى مبارك نائب الرئيس.. يذكر: «فى قصر العروبة دخلت أحد الصالونات، وبعد دقائق قليلة دخل مبارك مبتسما وودودا، وقال: الرئيس السادات معجب بكتاباتك الفكرية والسياسية، ويعرف اتصالاتك بالدوائر الدولية، لذا قرر أن يكلفك بعمل مهم وسرى، فهو يطلب منك إعداد الخطوط العامة لكلمة يلقيها أمام الكنيست الإسرائيلى».. يعترف غالى: «كانت دهشتى مزدوجة، فلأول مرة أعرف أن الرئيس يعتزم فعلا الذهاب إلى إسرائيل».
يعود غالى إلى حادثة وقعت قبل أيام، استدعاها وقت أن فاتحه مبارك بمهمة كتابة الخطاب وهى: «جاء أحد الأمريكيين اليهود الذين يمثلون حركة «السلام الآن»، يسألنى ما إذا كنت أستطيع أن أقنع السادات بأن يبعث برسالة تحية إلى مؤتمر «السلام الآن» الذى سيعقد فى القدس برئاسة بيير منديس فرانس، رئيس وزراء فرنسا الأسبق، وقلت لمحدثى: «لا بد أنك لست فى وعيك، لا يمكن أن يوافق السادات على شىء كهذا»، ومع ذلك بعثت بتلكس إلى الرئاسة بشأن هذا الطلب، وبعد ثلاث ساعات تلقيت برقية من السادات نصها: «أوافق، قم بإعداد نص الكلمة»، وقد فعلت».
يذكر غالى: كان هناك سؤال عن كيفية توصيل مثل هذه الرسالة إلى بلد عدو، ليست بيننا وبينه وسائل اتصال، ورأيت أننا يمكن أن نبعث بها عن طريق الفرنسيين، أوعن طريق الرومانيين، أوعن طريق سفيرنا فى قبرص، ووقع اختيارى على الحل الأخير بموافقة الرئيس، وعلى الرغم من هذه البادرة من جانب السادات، لم أدرك ما كان يفكر فيه، أما الإسرائيليون فرأوا فى تلك البرقية «أول طيور الربيع».
يتذكر غالى أن مبارك نبهه، قائلا: «بادرة السلام هذه من جانب الرئيس لا تعنى التخلى عن أية حقوق تتعلق سواء بقضية الفلسطينيين أو بالأراضى العربية، التى تحتلها إسرائيل منذ 1967، ويجب أن تعبر عن ذلك بوضوح».. يضيف: «كتبت ملاحظات على قطع من ورق صغيرة، ومرت بذهنى أسئلة عديدة، ولكنى فضلت الاكتفاء بالاستماع، وقال نائب الرئيس إن المسودة يجب أن تعد باللغة الإنجليزية، قلت إن الإنجليزية لغتى الثالثة بعد العربية والفرنسية، لذا أطلب مساعدة أحد زملائى للتأكد من سلامة اللغة، ووافق نائب الرئيس، ولكنه كرر التشديد على السرية».
عاد غالى إلى منزله وجلس إلى مكتبه، ويذكر أنه بحث فى مكتبه عن المطبوعات القانونية والفلسفية المتعلقة بالسلام، ومراجع أخرى، وظل يفكر ساعات، ثم ذهب إلى اجتماع لمجلس الوزراء، لكن ممدوح سالم قال له: « كان يجب ألا تحضر. إنك يجب أن تكرس وقتك لمهمتك الجديدة»، وانصرف غالى.
يذكر أنه فى صباح اليوم التالى، 17 نوفمبر 1977، كتب عشر صفحات، وفى العصر دعا صديقه الدكتور مجدى وهبة، أستاذ الأدب الإنجليزى بآداب القاهرة، أن يذهب إليه فى اليوم التالى 18 نوفمبر، ومعه آلة كاتبة.. يضيف: «ظللنا نعمل حتى الرابعة بعد الظهر، عندما طلبه مكتب مبارك ليبلغه أن نص الخطاب مطلوب على الفور، فوعدته بأن يكون جاهزا فى الساعة السابعة، وبعد نصف الساعة طلبه مبارك، ولكن ليبلغه بتعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية، وقائما بأعمال وزير الخارجية، وبهذه الصفة سينضم إلى الوفد المصاحب للرئيس فى زيارته إلى إسرائيل غدا السبت».
فى الكنيست، بدأ السادات خطابه، وكانت المفاجأة أنه لم ينطق بكلمة واحدة أوعبارة واحدة أو فكرة وردت فى الخطاب الذى كتبه غالى.. يكشف: «علمت أننى كنت واحدا من ثلاثة طلب منهم إعداد الخطاب».