حين تلقى محمد على باشا «والى مصر»، خبر وفاة ابنه إبراهيم يوم 10 نوفمبر 1848 قال: «كنت أعرف، لقد حبسنى، كان قاسيا معى كما كان مع الجميع، لقد عافاه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب على أن أترحم عليه وأدعو له الله»، وفقا لما يذكره «نوبار باشا»، وزير محمد على ومستشار ابنه إبراهيم باشا فى مذكراته.
هكذا يذكر «نوبار باشا» تلك اللحظات التى كان عليها «الباشا الكبير» بعد وفاة ابنه إبراهيم، مضيفا «أن محمد على كان كلما أفاق من غفلته الذهنية المستمرة يطوف شوارع القاهرة فى حراسة مماليكه وسط جموع الناس التى كانت تنظر إليه باحترام، ويرون فيه أحد المجاذيب.. كانت الناس تقول إنه قبل رحيل إبراهيم بوقت كبير إلى القسطنطينية رأى محمد على رؤيا عن سفر ابنه وولايته وعودته ثم وفاته».
كان إبراهيم يناهز ستين عاما هلالية وقت وفاته، بتقدير الدكتور زين العابدين شمس الدين نجم، فى كتابه «مصر فى عهدى عباس وسعيد»، مضيفا: «كان إبراهيم المولود فى قولة عام 1789، هو الساعد الأيمن لأبيه فى فتوحاته ومشروعاته، ويقترن اسمه باسم أبيه فى كثير من جلائل الأعمال، وأهمها تكوين الجيش المصرى»، وبالرغم من ذلك يقدم «نوبار» فى مذكراته دراما إنسانية فى علاقة «الأب» و«الابن» من الناحية السياسية.
يذكر نوبار: «كنت فى سراية شبرا يوم 28 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1848، عندما أتى حفيده عباس ليقبل يده قبل السفر إلى القسطنطينية لمقابلة السلطان العثمانى، فقال له محمد على: لقد لعنت إبراهيم، لأنه حبسنى، ولذا قبض الله روحه، فلا تتصرف نحوى مثله إذا كنت تريد ألا ألعنك أنت أيضا، فطمأنه عباس وقال له وهو يقبل يده مرة أخرى: أنت سيدنا وستظل كذلك».
هل جاءت شكوى محمد على تحت تأثير إصابته فى أعوامه الثلاثة الأخيرة بمرض «الجنون العقلى؟»، وهى نفس السنوات التى تسلل فيها المرض إلى جسد إبراهيم ومات على إثره؟ أم أن الشكوى كانت بسبب هواجس وشكوك تغلبت فيها أمراض السلطة على مشاعر الأبوة؟
يرصد «نوبار» علاقة الاثنين فى حكايات ربما تقود إلى إجابة، منها، تهديد «الباشا» بترك مصر والذهاب إلى الحجاز، وذلك بعد أن دعا إلى عقد اجتماع فى رأس التين بحضوره ورئاسة إبراهيم باشا، وحضور عدد كبير من الشيوخ والنبلاء لمعرفة آرائهم وأفكارهم فى حالة البلد، ولما توجه نوبار لحضور الجلسة التحضيرية للاجتماع، وجد إبراهيم جالسا وحده فى الصالون الخاص به، فاصطحبه إلى الخارج وركبا عربة جاهزة، وفى الطريق كشف إبراهيم لنوبار أن والده اعتكف فى سراى محرم بك ويهدد بترك مصر، والذهاب إلى الحجاز، يؤكد نوبار، أنه عند وصولهما إلى محرم بك رفض محمد على استقبال ابنه، فاتجها مباشرة إلى سراى رأس التين، حيث تجمع الوجهاء الذين يشاركون فى الاجتماع، وتبين أن المجلس قدم توصيات بخصوص الضرائب والإصلاح الإدارى أغضبت الباشا، وكان الحاضرون يتهامسون أن ابنته نازلى جلبت له بالأمس جارية من قصر الحريم، ونظرا لصغر سنها أعطوه بعض المقويات كى يسترد صحته وشبابه.
يؤكد نوبار، أن الجلسة انعقدت وكتبت خطابا إلى محمد على يحوى تساؤلا عما إذا كان يمكنه أن يفصح عن رغباته التى لن تجد سوى العبيد المطيعين لها، فرد على الخطاب بأن المجلس فيه شخص غادر وآخر طامع، وطلب تسليمهما، ويذكر نوبار: «كل فرد فى المجلس كان يعرف من هما المقصودان، لكنه لم يكن يجرؤ على القول بأن الغدار كان إبراهيم، أما الطماع فكان شريف باشا».
يذكر نوبار، أن المجلس كتب خطابا جديدا إلى الباشا يتمنى فيه إفصاحه عن الشخصين المقصودين، و«الاستعداد لتنفيذ رغبته، ولا شىء سوى رغبته»، فرد عليهم محذرا «طالما أنا فى مصر فليحذروا على أنفسهم، أما فى حالة رحيلى..»، وعاد إلى القاهرة، وحسب نوبار: «اعتكف فى شبرا، وأمر بتجهيز الأسلحة لمماليكه، وتجهيز مبلغ مائتى ألف جنيه ليحملها معه إلى الحجاز، وترك أعضاء المجلس فى الإسكندرية وكان آخرهم إبراهيم، وبعد عدة أيام استقبلهم الوالى كلا على حدة، وعادت الأمور إلى طبيعتها.
يذكر نوبار، أنه بعد ثلاث سنوات من هذه الواقعة روى له مملوك إبراهيم كيف سارت الأمور بين محمد على وابنه بعد هذه الأحداث، موضحا أنه فور عودة إبراهيم إلى القاهرة، كتب أبوه له خطابا مليئا بالعتاب، وأنه أمضى اليوم كله نائما وهذا الخطاب على بطنه قائلا: «إنه يحمل لى اتهامات أريد أن أحملها معى إلى القبر»، وفى صباح اليوم التالى اصطحب إبراهيم مملوكه متوجها إلى القصر لمقابلة أبيه فى شبرا، وعند الاقتراب من القصر قال له إبراهيم: «اضرب بسيفك»، فسأله: «من؟»، فقال إبراهيم: «من سيقوم بإعطاء الأمر؟»، «يقصد والده».