كانت الساعة التاسعة صباح 3 ديسمبر 1882، حين اجتمعت المحكمة العسكرية التى شكلها الخديو توفيق للنطق بالحكم ضد أحمد عرابى زعيم الثورة العرابية، بعد أن انتهت من التحقيق معه فور القبض عليه بفشل الثورة مع هزيمة التل الكبير، واحتلال الإنجليز للقاهرة فى 14 سبتمبر 1882.
كان محاميان إنجليزيان يدافعان عن عرابى ورفاقه هما «برودلى» و«نابير»، وذلك بترشيح من الكاتب الإنجليزى «بلنت» صديق عرابى والإمام محمد عبده، وكتب «برودلى» شهادته عن فصول هذه المحاكمة فى كتاب مثير هو «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه؟»، ترجمة، عبدالحميد سالم.
يذكر «برودلى» عن يوم المحاكمة: «كاد الشارع أمام سجن الدائرة السنية لا يسمح بمرور أحد، وكانت المحكمة مكتظة اكتظاظا شديدا بالنظارة «الوزارة» والسيدات المرتديات الملابس الفاخرة، وقد احتللن بعض أحسن الأماكن، وألقى نوبار باشا بابتسامة رقيقة على الحشد الذى تجمع بجوار المنصة، وجلست مسز «نابير» بجوار زوجها».
يضيف «برودل»»: «دخل القضاة، كما جىء أيضًا بعرابى، وكان واقفًا فى هدوء أمام قفص الاتهام، وفى هدوء أيضًا كان يراقب المشهد، وسحب رؤوف باشا رئيس المحكمة فى عصبية، وثيقتين من حافظة أوراقه السوداء، لم تكن عنده ثقة فى نفسه ليتحدث إلى الجمهور الآن، وبعد أن أومأ إلى المتهم بأن المحكمة ستباشر علمها الآن لتنفيذ الحكم، طلب من كاتب الجلسة أن يقرأ الحكم بصوت عال، وقد امتثل الكاتب لقراره، وكان الحكم على الوجه التالى:
«لما كان أحمد عرابى باشا قد اقترف جريمة العصيان حسبما تقضى به المادة السادسة والتسعون من القانون العسكرى العثمانى، والمادة التاسعة والخمسون من قانون الجنايات العثمانى، وبناء على هذا الاعتراف لم يكن أمام المحكمة إلا تطبيق المادتين المذكورتين اللتين تعاقبان جريمة العصيان بعقوبة الإعدام، وإزاء هذه الدوافع تصدر المحكمة حكمها بالإجماع على أحمد عرابى باشا بالإعدام على جريمة عصيانه لسمو الخديو «توفيق» تطبيقًا لنص المادتين والقرارين المذكورين، وسيعرض الحكم المذكور على سمو الخديو لإبداء الرأى فيه».
يذكر «برودلى» أنه فى أعقاب هذا النطق سادت لحظة صمت، وفى هدوء سحب رءوف الوثيقة الثانية من حافظة أوراقه، وقال موجهًا حديثه إلى المتهم: أحمد عرابى ستحاط علمًا بالمرسوم الذى أصدره صاحب السمو الخديو.
بعد ذلك نهض كاتب الجلسة مرة أخرى، وقرأ مايلى: «نحن خديو مصر.. بناءً على إصدار الحكم بالقصاص على أحمد عرابى باشا بما قر عليه قرار المجلس العسكرى فى 22 محرم 1300 هجرية «3 ديسمبر 1882»، حسبما تقضى به المادة السادسة والتسعون من القانون العسكرى العثمانى، والمادة التاسعة والخمسون من قانون الجنايات العثمانى، وبناءً على ما رأيناه من استعمال ما لنا من حق العفو لأحمد عرابى المذكور، أمرنا بما هو آت:
أولا- الحكم الصادر على أحمد عرابى المقتضى جزاؤه بالقصاص وقع تبديله بالنفى إلى الأبد من الأقطار المصرية.. ثانيا - هذا العفو يبطل ويقع إجراء الحكم على أحمد عرابى بالقتل إذا رجع إلى الأقطار المصرية أو ملحقاتها.. ثالثا - على ناظر الداخلية وناظر الجهادية والبحرية لتنفيذ أمرنا هذا كل منهما فيما يخصه.
صدر بسراى عابدين فى 22 محرم 1300 هجرية «3 ديسمبر 1882»، توقيعات، ناظر الجهادية والبحرية «مصطفى فهمى» ناظر الداخلية «رياض».. إمضاء محمد توفيق.
يتذكر «برودلى»، أن الصمت ساد بعد أن قرأ كاتب الجلسة «عفو الخديو»، ثم نهض القضاة للاستراحة، وإذا بواحد من مراسلى الصحف الذى كان طوال الوقت شديد الاهتمام بمصير عرابى، والذى كانت له وجهة نظر مختلفة بالنسبة لأهمية الحركة الوطنية عن تلك التى كانت لها شعبيتها فى مصر، إذ به يصافح عرابى، وكانت «مسزنابير» قد وضعت باقة من الورود على المكتب أمامها، وكانت تنوى أن تبعث بها إلى «عرابى» بعد المحاكمة، ولكن رجلا كان جالسا بالقرب منها، وبدون سابق صداقة وبدون معرفة لقصده، وضع باقة ورودها بدون أى تفكير فى يدى السجين، عندئذ سمعنا صفيرا مرة أومرتين، ولكن الحشد الضخم أخذ ينفض تدريجيا، وعاد عرابى إلى زنزانته.
يصف «برادلى» الحالة التى كان عليها عرابى حين وصل إلى زنزانته، قائلا: «رمى بنفسه على الفور على ركبتيه على سجادة صلاته المطرزة المصنوعة من وبر الجمل، وكمسلم حق، صلى صلاة شكر من كل قلبه للعزيز الرحيم لإنقاذه من يدى أعدائه، وبعد انتهائه من صلاة الشكر، شكر فى عبارات مؤثرة جدا كلا منا: مستر نابير» وشخصى، على كل ما قدمناه له من خدمات جليلة.. تركناه يكتب فى هدوء: خطاب شكر وعرفان لمستر «بلنت» الذى كان السبب فى إنقاذ حياته.