عامان مرا على رحيل الشاعر الكبير رفعت سلام، لكن الأثر الشعري الذي تركه باق، وإبداعه في مجال الترجمة خالد وممتد، فكما قدم لنا أعمالا شعرية فارقة ومؤثرة، قدم لنا ترجمات لمجموعة من أهم الأسماء العالمية، ليكون بوابتنا للانفتاح على ثقافات ومدراس شعرية وأدبية أخري.
"انفراد" وهى تحتفي بمرور الذكرى الثانية على وفاة الشاعر والمترجم الكبير رفعت سلام، بعد معركة خاضها صاحب "إلى النَّهار الماضي" مع السرطان، الذى ناطحه قبل أن يتمكن منه الأخير، كما تمكن هو من كافة المدارس الشعرية، فكتب اسمه بين أبرز شعراء السبعينيات في مصر والعالم العربي.
في السطور التالية نرصد شهادات لثلاثة من الشعراء والنقاد الذين اقتربوا من عوالم رفعت سلام الشعرية، وكانا على اتصال وثيق بصاحب "كأنَّها نهاية الأرض" أحبوه وأحبه أعماله، فكانا خير من يتكلم عن الراحل الكبير في ذكراه، ولنبحث معاهم عن ماذا الذي تبقى من أثر رفعت سلام؟
عيد عبد الحليم: أهمية رفعت سلام كمترجم تأتي أولا وكشاعر تأتى ثانية
دائما ما يبقى من المبدع هو ما تركه من ميراث إبداعي شرط أن يكون هذا الإبداع يمثل إضافة حقيقية للنوع الأدبي أو الفني، من هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن تجربة رفعت سلام يبقى منها الكثير، عبر مستويين، المستوى الشعري، يبقى منه رهانه على مغامرة التجديد منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي مراهنة جيل بأكمله غير من خريطة الشعر المصري والعربي، فسلام مع صديقه وزميل دراسته الشاعر حلمي سالم كانا أصحاب فكرة تأسيس الجماعة الشعرية الأبرز في جيل السبعينات وهي جماعة إضاءة 77، وإن اختلفا بعد ذلك، كما أنهما كان أصحاب المبادرة الأولى لنشر اول ديوان في هذا الجيل وهو الغربة والانتظار، وهو ديوان مشترك بين حلمي ورفعت صدر أثناء دراستها بقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1972.
رفعت سالم كان شاعرا مميزا، وإن كان أفضل دواوينه من وجهة نظري هو ديوان إشراقات، أما بقية دواوينه فهي تنويع على هذا الديوان، فلم تكن هناك قفزات نوعية في تجربته الشعرية.
أما على المستوى الثاني وهو الترجمة، فيكاد يكون رفعت سلام هو أهم مترجم للشعر في الوطن العربي فعلى يديه تمت ترجمة الأعمال الشعرية لكبار شعراء العالم المؤثرين في معظم الأجيال الجديدة في الوطن العربي، مثل بودلير وكفافيس ورامبو وغيرهم، بالإضافة إلي ترجماته لمختارات شعرية عالمية، وقد جاءت ترجماته متسقة مع روح الشعر.
من وجهة نظري، أهمية رفعت سلام مترجم تأتي أولا، وأهميته كشاعر تأتي ثانيا، فما قدمه من ترجمات كان أكثر تأثيرا في الحياة الثقافية المصرية والعربية أكثر من تأثير تجربته الشعرية، رغم أنه يعتبر من أهم شعراء جيل السبعينات. واعتقد أنه سيبقى من رفعت سلام الكثير، سواء من ترجماته، وحتى من دواوينه المهمة، وإن جاء تأثيرها نسبيا. لاختلاف ذائقته الأجيال الجديدة.
أحمد الصغير: تجربته شعرية ممتدة عبر الزمان والمكان
منذ سبعينيات القرن الفائت، بدأ سلاَّم يؤسس لشعرية تتمرد على الشكل المألوف للدواوين الأخرى، فهو شاعر مُشْكلٌ يبحث عن الفتنة الكونية المنبعثة من رحم الأرض الأخرى في كل زمان ومكان وعليه فهو يخلق نصه الشعري من خلال عوالم حية متفاوتة. هذه العوالم تستظل بالكائنات الحية في عمومها مثل النباتات والحيوانات والطيور والإنسان والجمادات والنصوص الحية أيضا من التراث العالمي والعربي بخاصة، مرتكزة نصوصه علي شعرية الأساطير الكونية التي تلتحم بروح النص والذات الشاعرة في ماء نصي واحد هذا الماء الشعري الذي يكمن في خلايا وأنسجة الوحدات الصرفية الصغيرة في أبدان المفردات العابرة من جيل إلي جيل ومن مرحلة إلي أخري، ومن ثمَّ فإن جلَّ دواوين سلام لها شكل شعري مائز، تتخذ من المخاتلة الكونية الشعرية طريقا للتعبير وفي ظني أن أفضل الطرق للولوج في هذه العوالم الشعرية أن تعتمد علي القراءة البصرية مدعومة بقراءة سيمائية تأويلية مغايرة، وقد تجلت هذه المغايرة ــــ وقد رصدنا هذه الظواهر الشعرية من قبل في شعر سلام ــ في بعض أعمال سلام الشعرية، مثل ديوانه إلي النهار الماضي، وردة الفوضى الجميلة، إشراقات رفعت سلام، وكأنها نهاية الأرض، حجر يطفو علي الماء، وأخيرا هكذا تكلم الكركدن.
يمتلك الشاعر رفعت سلام تجربة شعرية واسعة وممتدة عبر الزمان والمكان، سواء في الشعر أو الترجمة والنقد الشعري وغيرها من النشاطات الأدبية المختلفة. ستقف الأجيال طويلا أما مشروع سلام الشعري بصفة خاصة، لما يمتلكه من جرأة وتمرد ومغامرة على المستويات الفنية كافة. سيتبقى الكثير، لأننا حتى اللحظة لم نفتح سوى ثغرة طفيفة في أرضية الشعرية التي تركها سلام ز فقد ألقى أحجارا كثيرة في مياه راكدة منذ زمن مضى على حد قوله في ديوانه حجر يطفو على الماء. الحجر هو رفعت الذي رفض الخنوع والتقليد والفوضى والموت، وطفا على الماء صاخبا وجريئا.
تطرح قصيدته الحداثة مساحات من الوعي الجاد والرقي الشعري العميق، فنصه الشعري تنصهر داخله معظم الأنواع الشعرية الأخرى والأدبية وغيرها، يكتب بصدق وعينه على تحطيم مجازات الخوف والطمأنينة.
أحمد سراج: منجز رفعت سلام مثل زهرة لوتس الشعر قلبها
"لي أن أخترع التاريخ، وله أن يذعن لي" ترتحل البشرية في الزمان كما يرتحل البشري في المكان، منا من يحمل شعلة العلم، ومنا من يحمل شعلة الحرب، ومنا من يحمل شعلة الشعر، فمنهم من يسقط دون أن يراه أحد، ومنهم من لا يخفى على أحد.
من هنا فالنظر إلى امرئ القيس وهوميروس والمتنبي وأوفيد وشوقي وشكسبير وعبد الصبور وإلبوت ورفعت سلام وريتسوس لا يكون إلا على أنهم شعراء غيروا المستقبل بما يحملون من نار مقدسة. كأن منجز رفعت سلام زهرة لوتس قلبها الشعر، تحوطها ورقات أربع؛ الترجمة والنقد والصحافة والحياة الشخصية.
في الترجمة ستبقى أعماله كلها فمن يستطيع ترك ترجمات كاملة بمقدمات لولا اننا قرأناها لاعتبرناها حديث خرافة، وأظن أنه لو قام كاتب بجمع هذه المقدمات في كتاب لوجد القارئ سيرة الحداثة الشعرية العالمية مكتملة، أما طريقته في الترجمة وهي طريقة موضوعية شعرية فهي تجعلك مع النص الاساسي مزيلة عجمة اللغة وغربة القارئ، فكأنك تنصت إلى بودلير أو رامبو دون ان تفلت منك شاردة.
في الصحافة يترك سلام أثره بتأسيس القسم الثقافي في وكالة أنباء الشرق الأوسط، ويترك لرفاق المهنة درسه الأبلغ: نحن الجواري المنشآت، لا الخبر. فهو لم يسع ذات يوم لاستثمار منصبه في كبرى وكالات الأنباء، بل كان حريصًا على أداء مهمته الصحفية كما يقول كتابها (بكسر الكاف) لذلك فأبناء المهنة المخلصون يتبعون خطاه
.
في النقد سيبقى كتاباه "بحثًا عن الشعر" و"بحثًا عن التراث" نموذجين دالين أحدهما على استيعاب الشاعر لما حوله من نصوص وشعراء وثانيهما على استيعابه لتراثه وفهمه لدور هذا التراث، وموقفه هو منه، وكلاهما يدل على وعي الشاعر ورغبته في تغيير العالم أو المشاركة في ذلك، أو على الأقل ترك علامة كي لا يتوه القادمون من خلف.
حياة رفعت الشخصية أو الإنسانية ستبقى كحكايات الفقراء عن اولئك الرجال الذين كانوا هنا فلم ينحنوا ولم يتذللوا، ظلوا يرفعون رؤوسهم نحو الضوء حتى اتحدوا به؛ فصاروا شموسًا.
الأثر الشعري لرفعت يظهر للقارئ وللناقد وللشاعر، فلا يمكن لقارئ أن يدعي قراءته للشعر العربي في النصف قرن دون أن يقرأ سلام، وللناقد فما قدمه سلام ورفاقه من تطوير (ضروري، هو ما نقل الشعر وجعله يستمر بزهوه) ينبغي على اي ناقد أن ينظر إليه بتأن ووعي، أما الشاعر فمدينة سلام الشعرية الباذخة ستترك فيه زادًا سيعينه. بكلمة: "كي يبقى الشعر سيدًا كان رفعت سلام، وسيبقى سلام ما بقي الشعر".