كانت الساعة السادسة مساء 7 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1919، حين أقبل أعضاء مجلس إدارة الجامعة المصرية على قاعة المحاضرات فيها، للاستماع إلى أول محاضرة يلقيها الدكتور طه حسين فى الجامعة بعد حصوله على الدكتوراه من فرنسا، وفقا للدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973، وزوج ابنة طه حسين فى كتابه «ما بعد الأيام»، مضيفا أن الحضور تقدمهم شخصيات رفيعة مثل، عبدالخالق باشا ثروت وكيل الجامعة، وإسماعيل حسين باشا وكيل وزارة المعارف، ومرقص بك حنا المحامى، وعلى بك بهجت مدير الآثار العربية، وشكرى باشا وكيل وزارة الحقانية، وحسين سعيد باشا، وجلسوا إلى جانب الأستاذ الشاب طه حسين، ويسير «ثروت باشا» مع طه إلى منصة التدريس، ويقدمه للطلاب ولغيرهم ممن توافدوا، ويلخص فى تقديمه لهم حياته العلمية وجهاده فيها.
اختتم ثروت، ملخصه عن الحياة العلمية لطه وجهاده قائلا: «هذا هو مختصر لحياة طه حسين، تلك الحياة العلمية التى كان فيها خير مثال للشبيبة المصرية، وأصدق دليل على الذكاء المصرى والنبوغ المصرى، وأقطع برهان على ما يثمر الجد والثبات والعزم»، ثم يختتم حديثه بقوله: «أستاذنا الدكتور طه حسين يبدأ الآن حياة جديدة.. يبدأ حياة الإفادة بعد الاستفادة، وأنى باسم الله، وبالنيابة عن أعضاء مجلس الإدارة، افتتح الدرس الأول للأستاذ الدكتور طه حسين».
يذكر «طه» فى سيرته «الأيام» أنه «ألقى درسه فرضى الناس عنه، ورضى عنه هو أيضا، وكان تاريخ اليونان الموضوع الذى اختاره لدروسه فى هذا العام»، غير أن العلامة الدكتور زكى مبارك كان من ضمن الحضور ولم يعجبه كلام طه حسين، وفقا لما يذكره فى مقاله «القيادة السياسية بين الفلاسفة والأنبياء - تاريخ لطيف» بمجلة الرسالة، 542، 22 نوفمبر 1943.
يقول «مبارك»: «فى السبت الأول من نوفمبر سنة 1919 «يختلف عن التاريخ الذى حدده الزيات 7 ديسمبر 1919» وقف ثروت باشا بقاعة المحاضرات فى الجامعة وألقى كلمة طيبة قدم بها الدكتور طه حسين، وقال إنه يود لو كان سعد باشا حاضرا ليقدم الدكتور طه على نحو ما صنع فى العام الماضى وهو يقدم الدكتور أحمد ضيف «وكان سعد باشا يوم ذاك منفيا بأمر السلطة العسكرية»، ثم وقف الدكتور طه ليلقى محاضرته الأولى فشكر أعضاء مجلس الجامعة، ومن كان منهم فى مصر ومن كان منهم خلف البحر «يشير إلى سعد باشا زغلول ومحمد باشا محمود»، واندفع بعد ذلك فى محاضرته، فحدثنا أنه عزم على إحياء التراث اليونانى، لأنه يؤمن إيمانا جازما بأن مرجع الفكر فى الشرق والغرب إلى القدماء من مفكرى اليونان».
يضيف: «وما كاد الدكتور طه يفرغ من محاضرته حتى نهض أحد طلبة الجامعة واسمه زكى مبارك، فرد على الدكتور طه ردا خطابيا أثار إعجاب الجمهور، فوقف الدكتور طه ورد على الطالب ردا ظفر بشىء من القبول، وبدا للأستاذ محمود عزمى أن يؤرخ وقع المحاضرة الأولى للدكتور طه بكلمة ضافية فى جريدة الاستقلال، ولم يفته أن يوجه عبارة نابية إلى الطالب الذى ثار حين رأى من يقول بأن مرجع الفكر كله إلى مفكرى اليونان».
فى المحاضرة الثانية، رأى طه أنه «لا سبيل إلى الأخذ فى درس التاريخ إلا إذا قدم بين يديه وصفا جغرافيا للبلاد التى يدرس تاريخها، وعرض هذا الوصف فملك قلوب الذين استمعوا إليه، وملأ نفوسهم رضا عنه وإعجابا به وهو لم يصنع فى إعداد هذا الدرس إلا أن سمع الزوجة وأطاع».
يوضح ماذا فعلت زوجته سوزان: «أخذت قطعة من الورق وصاغتها فى شكلها على نحو ما صاغت الطبيعة تلك البلاد، ثم أرادت أن تصور ما فى هذه البلاد من الجبل والسهل الذى يضيق حينا ويتسع حينا، ومن البحار التى تأخذها من أكثر جهاتها، فصورت ذلك بارزا فى هذه القطعة من الورق، ثم أخذت يد الفتى وجعلت تمرها على هذه بعد أن افترضت معه أنها تبدأ من الجنوب، وتمضى إلى الشمال، وتنحرف مرة إلى الشرق ومرة إلى الغرب، لتبين له مواقع البحر، ولتبين له الأماكن التى تضيق حينا وتتسع حينا، التى كانت تقوم فيها المدن القديمة، وما زالت به حتى فهم ذلك حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنت إليه».
طلب «طه» قبل الدرس عرض الصورة الجغرافية لبلاد اليونان بقاعة المحاضرة، فتعجب الموظفون وأنكروه، إذ كيف له أن يشرح وهو لا يرى الصورة.. يتذكر: «أضمروا إنكارهم، وأجابوه إلى ما أراد، وأقبل على مجلسه فأنبأ المستمعين بأنه سيصف لهم بلاد اليونان من جنوبها إلى شمالها، وليس عليهم إلا أن يتبعوه بأبصارهم على هذه اللوحة المصورة، ثم أخذ فى الحديث فلم يلجلج ولم يتردد، والطلاب يسمعون بآذانهم ويتبعون بأبصارهم حتى انقضت ساعة الدرس، وأتم ما أراد من الوصف، ولما تفرق الطلاب دعاه ثروت باشا فأشبعه ثناء وتقريظا وتشجيعا».