حلقت طائرة الهليكوبتر الإسرائيلية فوق السفينة الأمريكية «ليبرتى»، للاقتراب من سطحها، لكن غضب ضباط وبحارة السفينة الأحياء بلغ مبلغه، فوجهوا نيران أسلحتهم الصغيرة، ثم فوجئوا بإلقاء ثقل من الرصاص عليهم، ومعه رسالة من الملحق البحرى الأمريكى فى إسرائيل، تقول نصا: «هل لديكم أية خسائر؟»، حسبما يذكر محمد حسنين هيكل فى كتابه «الانفجار»، مضيفا: «لوح قائد السفينة غاضبا بإشارة بذيئة وصرخ بأعلى صوته بسباب أكثر بذاءة، ثم بصق على الأرض، ولمدة 16 ساعة لم تأت نجدة أمريكية جوا أو بحرا، وأسوأ من ذلك وقفت حاملة صواريخ سوفيتية بالقرب منها فى منتصف الليل، وأفصحت عن شخصيتها بأضواء المورس، وسألت قائدها: هل تحتاجون إلى أى مساعدة؟ فأجابت ليبرتى: لا، شكرا».
بدأت محنة «ليبرتى» وأسرار تدميرها يوم 8 يونيو 1967، منذ أن وصلت قبل فجر 5 يونيو 1967 بساعات، ويذكر «هيكل» معتمدا على الوثائق الأمريكية، أنها رست فى موقع يمثل نقطة التقاء بين العريش والقدس، وفور وصولها اكتشفت أن الإسرائيليين يتسمعون على الشبكات المصرية الأردنية، وتمكنت من اختراق بعض الشفرات الإسرائيلية، وكانت تلك مهمتها الأساسية، دون أن يعلم أحد بوجودها.
يذكر «هيكل»، أنها جاءت لمراقبة ضمان اتفاق الرئيس الأمريكى جونسون مع إسرائيل بألا تتجاوز الحدود فيما يتعلق بالأردن، وإذا حدث أى ضربة لها تظل فى حدود الدرس فقط، واكتشفت «ليبرتى» أن إسرائيل تتدخل لطبخ الرسائل الشفرية بين القاهرة وعمان، وعلى سبيل المثال كانت هناك رسالة شفرية تقول: «إن الجيش المصرى فى سيناء يواجه موقفا عسكريا صعبا لا يستطيع معه أن يقدم أى مساعدات لها قيمة للجبهة الأردنية، وأن الطيران المصرى بدوره تعرض لضربة إسرائيلية تعوق قدرته على الوصول بأى تأثير إلى الجبهة الأردنية»، واعترضت إسرائيل هذه الرسالة وصاغتها قائلة: «إن الموقف العسكرى فى سيناء جيد للغاية، وأن ضربة الطيران الإسرائيلى ضد مصر فشلت وخسرت فيها إسرائيل ثلاثة أرباع قوتها الجوية، وهناك ثلاثمائة طائرة مصرية جاهزة للعمل، وتقديم المساعدات الجوية اللازمة للجبهة الأردنية».
بدت هذه الطبخة غريبة على غرفة عمليات «ليبرتى»، وحسب «هيكل»: «تنبهوا إلى أن القصد هو إغراء الأردن للتورط فى توسيع القتال على جبهته، ليعطى إسرائيل عذرا فى التقدم أسرع وأجرأ فى الضفة الغربية»، وثارت فى وزارة الدفاع الأمريكية شكوك حول تطمينات جونسون للملك حسين، وبعد ظهر 5 يونيو كلف رئيس هيئة الاتصال العسكرى الأمريكى فى إسرائيل أن يقابل وزير الدفاع موشى ديان، ومدير الموساد مائير آميت، لينقل إليهما شكوك واشنطن دون إطلاعهما على المصدر، فبدأت إسرائيل رحلة البحث عن هذه المصادر، وانتبهت إلى وجود ليبرتى، وقررت تدميرها للتخلص من الأسرار التى حصلت عليها، وكانت الطريقة التى عولجت بها عملية تدميرها داخل أمريكا مهزلة سياسية، فكل وسائل الإعلام، ونواب الكونجرس، والشيوخ، تسابقوا لتبرير التصرف الإسرائيلى.
بعد 18 عاما يتجدد الحديث عن القضية فى مؤتمر صحفى عالمى بأمريكا للأدميرال توماس مورير، رئيس العمليات المشتركة لأركان الحرب وقائد العمليات البحرية الأمريكية من 1967 إلى 1970، ويحضره ستان رايت، رئيس اتحاد ضحايا وأسر ليبرتى، والسفير أندرو كيلجور، وسفير أمريكا السابق فى قطر، وقائد «ليبرتى» وأحد بحاريها، وتنشر «الأهرام» وقائعه فى 18 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1985، ويؤكد مراسل الأهرام حمدى فؤاد، أن الصحف الأمريكية لم تنشر كلمة واحدة منه، وأن أسر الضحايا يحاولون كسر الصمت، فيطوفون بمكاتب الكونجرس، والخارجية، والبنتاجون، والبيت الأبيض، لكن الملفات تختفى.
يقول «مورير»: «ذهبنا لمساعدتهم، ووقفنا خارج مياههم الإقليمية، بعد أن طلبت منا القيادة العامة، وأركان حرب البحرية أن نتوجه إلى منطقة المعارك، وكانت التعليمات تقتضى أن نسجل كل شىء لنبلغ به قيادتنا، نحن بصراحة سفينة تجسس اسمها «ليبرتى» أى «الحرية»، لكنها أصبحت سفينة الموت، الطائرات تضربنا، والعلم الأمريكى يرفرف فوق أعلى سار فى ليبرتى التى لا تحمل سلاحا، بل معدات قيمتها الملايين من الدولارات، واتصلنا بالبنتاجون، وقالوا إن قطع الأسطول الأمريكى تتجه لإنقاذكم، قلنا لهم إسرائيل تضربنا والطائرات تلقى قنابلها على رؤوسنا، وعدد القتلى يرتفع.
صرخ بحار، إنهم يطلقون زوارق الطوربيد، زميلى مات بين ذراعى، اسكتوا وأوقفوا هؤلاء المجانين، وبدلا من أن تتحرك قطع الأسطول الأمريكى، انقطع الاتصال مع البنتاجون، واختفت قطع الأسطول، وبدأت ليبرتى تغرق بعد أن مات عليها 34 شخصا وجرح 171 آخرون، سأل مراسل الأهرام الأميرال مورير، ماذا كانت حدود مهمتك؟ ضحك وقال: ما الذى تتصوره إذن فى أن قيادتنا أوفدتنا إلى المنطقة، حرب دائرة بين إسرائيل ومصر وسوريا، نحن لا نتدخل، ننقل المعلومات للبنتاجون الذى يتابع العملية بفرحة وسرور، وإذا أمكنتنا مساعدة إسرائيل بمعلومات التجسس التى لدينا فلا مانع، بالإضافة إلى تسجيل كل المكالمات والاتصالات والمعلومات المتبادلة بين وحدات الجيش المصرى ومقر قيادته وبين سوريا ومصر.