انشغل الناس فى مصر بالحرب الدائرة بين روسيا وتركيا فى «جزيرة القرم»، ليس لأن مصر كانت خاضعة لسلطة الدولة العثمانية فقط، وإنما كان لها جنود فى هذه الحرب يقاتلون الروس إلى جانب الأتراك.
وتعطى جريدة إنجليزية هى «ذى اللستريتد لندن نيوز» صورة عن هذا الانشغال فى عددها يوم 31 ديسمبر «مثل هذا اليوم» من عام 1853، وفقا لما يذكره الأمير عمر طوسون، فى كتابه «الجيش المصرى فى الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم»، مؤكدا أن تركيا أعلنت الحرب على روسيا يوم 4 أكتوبر عام 1853، وأرسل السلطان العثمانى «عبدالمجيد» إلى عباس باشا «والى مصر» فرمانا بالتركية يعلمه فيه بإعلان الحرب، ويأمره بتنبيه الأهالى إلى الدعاء بنصرة الدولة العلية، وعدم التعرض لرعايا الروس والدول المتحابة فى مصر، ومعاملتهم باللين والحسنى».
يضع «طوسون» هذه الحرب فى سياق المطامع الروسية الدائمة فى تركيا، قائلا: «كانت روسيا تطمح بأنظارها إلى امتلاك الآستانة فى كل وقت وزمن»، ويذكر أن سبب هذه الحرب هو «شجار نشب بين الرهبان على أثر انتزاع قسس الإغريق المشمولين برعايته الروحية جملة أديرة لرهبان الأراضى المقدسة، فرفع هؤلاء شكواهم إلى السلطان عبدالمجيد، فعين لجنة مؤلفة من فرنسيين وإغريق وكلفها تحقيق هذا النزاع، وتحت تأثير ضغط القيصر أصدر السلطان فرمانا روعيت فيه مصلحة الإغريق، فأرسل نقولا إلى الآستانة الأمير منتشيكوف، وأوعز إليه أن يطلب من الباب العالى الاعتراف بحماية القيصر لكل المسيحيين المقيمين فى الإمبراطورية العثمانية، فأبى الباب العالى، وعلى ذلك أصدر القيصر أمرا لجنوده بالزحف والإغارة على إمارتى الدانوب، فاشتعلت نيران هذه الحرب».
طلب السلطان عبدالمجيد من «عباس باشا» جنودا وأساطيل للمشاركة فى الحرب فلبى عباس، وفقا لتأكيد «عبدالرحمن الرافعى» فى كتابه «عصر إسماعيل»، مضيفا: «كانت دار الصناعة «الترسانة» معطلة، فعاد إليها النشاط، واستدعى إليها العمال الذين كانوا مصروفين عنها، وجهز الأسطول المصرى، وعهد بقيادته إلى الأميرال حسن باشا الإسكندرانى، أحد خريجى البعثات العلمية فى عهد محمد على، وأعد حملة مؤلفة فى بدء الحرب من نحو 20 ألف بقيادة سليم باشا فتحى، أحد القواد الذين حاربوا تحت لواء إبراهيم باشا فى سوريا والأناضول، فأقلعت الحملة ووصلت إلى الآستانة، ثم إلى ميدان القتال على نهر الدانوب، ورابط معظم الجنود المصريين فى «ساستريا»، وكان الروس يهاجمونها، فأبلى المصريون بلاء حسنا فى المدافعة عنها».
يذكر «طوسون» جانبا من بطولات الجنود المصريين فى الحرب، والتفاعل الشعبى معها، وذلك نقلا عن جريدة «ذى اللستريتد لندن نيوز» يوم 31 ديسمبر 1853 التى نشرت لمراسليها فى مصر: «يقولون إن أحد الأهالى جاءه كتاب من ميدان القتال فى جهات نهر الطونة، بانتصار المصريين على الروس فى تلك البقاع، وعبورهم النهر المذكور ببسالة وإقدام»، وأضافت: «الحرب فى جهات الدانوب وفى الأصقاع الآسيوية هى الموضوع الذى يشغل الناس الآن فى الإسكندرية والقاهرة عن كل حديث غيره، واحتشدت فى المدينتين قوات كبيرة من الجنود، ويسافر من وقت لآخر فى أسطول الباشا فصائل من الجنود المصرية إلى ميدان القتال، وأجمع الرواة على أنهم رفعوا مكانتهم فى أعين الجميع بإقدامهم وبسالتهم وشدة كفاحهم للروس».
تضيف الجريدة: «ورد عن شخص فى الإسكندرية كتاب من ميدان القتال فى جهات نهر الطونة «الدانوب»، يقول فيه كاتبه إن أربعين من الجنود المصرية كانوا أول من عبر هذا النهر، وفعلوا ذلك سابحين والتقوا بحراس إحدى النقط الروسية وهزموهم وقتلوا منهم عشرة جنود، ثم اجتاز النهر بعدهم مائة وخمسون من الألبانيين فى صندل، وهؤلاء أيضا قهروا جماعة من الروس، وأخيرا عبر الأتراك النهر بقواتهم، وفى مصر الآن ما لا يقل عن 15 ألف جندى ينتظرون البواخر التى تقلهم إلى منطقة الحرب، فإذا انضم هؤلاء إلى زملائهم المنضمين الآن إلى جيش السلطة وأسطوله بلغ عدد جنود الحملة كلها 40 ألف جندى، وعلاوة على هذه القوة الكبيرة، توجد لدى عباس باشا حاميات القطر المصرى 40 ألف جندى آخرون، وفى الإسكندرية الآن وما يجاورها 27 ألف جندى».
تذكر الجريدة: «كثرت الشكايات من الشدة المستعملة فى التجنيد ومن أفعال العنف الجائرة التى يلجأون إليها للحصول على جنود الحملة، وتطوع أخيرا للحملة العسكرية لنصرة السلطان 6 آلاف من الذين خاضوا غمار حروب سابقة، ويتحدث أصحاب النشرات الصغيرة مفتخرين معجبين ببسالة إخوانهم المتحاربين فى جهات نهر الدانوب، ولا يذكرون الموسكو - كما يسمون الجنود الروسية - إلا مستهزئين ساخرين أشد السخرية».