وردت البرقيات من «الآستانة» عاصمة الدولة العثمانية إلى القاهرة فى أول يناير، مثل هذا اليوم، 1895 تفيد بسوء صحة الخديو المخلوع إسماعيل باشا، وأن أطباءه يخشون عواقب المرض نظرًا لضعفه، وفقًا لما يذكره أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس فى الجزء الثانى من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
كان «إسماعيل» يعيش فى الخارج منذ خلعه من الحكم، ولم يعد إلى مصر منذ مغادرته لها يوم 30 يونيو 1879، ويذكر «شفيق» أن الخديو عباس الثانى تأثر بالأنباء التى تلقاها عن مرض جده، وكان وقعها سيئًا عليه، فهو حفيده الذى «يحمل له عاطفة الحب البار، وأرسل يستفسر، ويطلب موافاته بالأنباء تباعًا»، ورغم ذلك لم يستطع أن يلبى له أمنيته الأخيرة بأن يعود إلى مصر ليقضى آخر أيام حياته فيها.
هى دراما النهايات لواحد من أهم حكام أسرة محمد على لمصر، عاش حياته بعد خلعه فى إيطاليا ثم انتقل منها إلى الآستانة، ويروى «شفيق باشا» أسرار أيامه الأخيرة من واقع شهادته عليها، وأهم ما فيها أمنيته بالعودة لمصر ليموت على أرضها.. يذكر «شفيق» أن الخديو عباس بعد أن تلقى خبر سوء حالة جده الصحية بيومين، جاءت الأنباء تحمل على التفاؤل، وبعد يومين آخرين جاءت الأخبار منذرة بسوء الحال، فاستدعى أعمامه يوم 6 يناير 1895 ليتباحثوا فى الأمر، واستقر رأيهم على أن يسافر البرنسان إبراهيم باشا حلمى وفؤاد باشا للآستانة ليكونا بجانب والدهما، وبعد سفرهما حضر البرنس حسين كامل باشا، وتحدث عن مسألة رجوع والده إلى مصر مع الخديو عباس لأن هواءها يوافق صحته بعد أن قرر الأطباء ضرورة مغادرته الآستانة.
فى اليوم التالى «7 يناير» تباحث الخديو مع النظار «الوزراء» فى الأمر، ووفقًا لشفيق: «كان رأيهم ألا تفتح هذه المسألة فلعلها تجر إلى أزمات سياسية».. يضيف: «قدم من الآستانة الكونت «ما فيه دوبوليو» سكرتير إسماعيل وقدم إلى عباس أوراقا من جده فيها وصيته الأخيرة»، وقال السكرتير إن الأطباء قرروا أن إسماعيل مصاب بمرض الاستسقاء، وأمله ضعيف فى الشفاء.. يذكر شفيق أنه فى 11 يناير وردت برقيات من البرنسين إبراهيم باشا حلمى وفؤاد باشا ومن أطباء والدهما تفيد بأنه مصاب فوق الاستسقاء بالالتهاب والسرطان المعويين، ولا بد من انتقاله إلى بلد حار كمصر لتغيير الهواء، ويرجون الخديو التصريح لجده المريض بأن يعود إلى الوطن.
يصف «شفيق» حال الخديو عباس حين قرأ هذه البرقيات، قائلا: «بدا على وجه سموه شديد الكدر»، ودعا مجلس النظار للاجتماع لكن المجلس ما كاد ينعقد حتى أصر على قراره الأول»، ويكشف شفيق أن الأصل فى الرفض يعود إلى أن إنجلترا التى تحتل مصر فهى التى لا تريد لإسماعيل العودة، فضلًا عن أن نفس الموقف كان للسلطان العثمانى، غير أن الأمر تجدد بعودة البرنس فؤاد باشا يوم 20 يناير إلى القاهرة، فتوالت الاجتماعات بين الخديو وأفراد أسرته ثم بينه وبين مجلس النظار فى اجتماع يوم 23 يناير 1895، انتهى إلى الرفض أيضًا، وقرر مجلس النظار أن هذا آخر بحث رسمى له فى هذا الموضوع.
يكشف «شفيق» أن الجهود وصلت إلى حد سفر محمد راتب باشا السردار الأسبق إلى الآستانة، لعرض الأمر على السلطان العثمانى، فوعد السلطان بالنظر فى الأمر إن بعث الخديو إليه بمكتوب رسمى، وعلى أثر ذلك أرسل إسماعيل باشا برقية إلى حفيده يستعطفه فيها بأن يلتمس له الإذن من السلطان بالعودة إلى مصر، فبحث الخديو الأمر من جديد مع النظار، لكنهم أصروا على موقفهم السابق، ولمحوا بأنهم يفضلون الاستقالة إذا لم يتم احترام رأيهم، وعندئذ رد الخديو عباس على طلب جده مظهرًا شديد أسفه على أن لا يستطيع تلبية رغبته لأنه يعمل بالاشتراك مع نظاره، والنظار مصرون على رأيهم، ولهذا يتعذر عليه مخاطبة الآستانة فى مثل هذا الموضوع.
يذكر «شفيق» أن الخديو عباس بعث ببرقيته إلى جده وهو متألم لوقوف نظاره منه هذا الموقف، وفى 27 فبراير 1895 وردت أنباء تؤكد تفاقم الخطر، وأن إسماعيل باشا أوصى بأن يدفن فى القاهرة. يضيف «شفيق»: «لم يمض يومان على هذا النبأ حتى ورت برقية من الآستانة بنعيه يوم 2 مارس 1895، وأنه أوصى قبل وفاته بجميع أمواله وأملاكه إلى قريناته الثلاث، واختار البرنس إبراهيم حلمى باشا، ومحمد راتب باشا للوصاية عليهن، فسرى النبأ فى القصر بسرعة، وعلت جبين الخديو سحابة من الحزن، وخفت الأصوات فلم تسمع إلا همسا، وتنفيذًا لوصية الفقيد صدرت الأوامر إلى مصلحة البوستة الخديوية بأن تعد إحدى بواخرها لنقل الجثمان».