تمكن نابليون بونابرت قائد الاحتلال الفرنسى لمصر من هزيمة جيش المماليك فى معركة «الأهرام» أو «إمبابة» يوم 21 يوليو 1798، فى طريق زحفه لاحتلال القاهرة، وتلقى جيش مراد بك صدمة الهجوم الفرنسى، وما إن حلت به الهزيمة حتى انسحب إلى الجيزة، وأحرق سفنه كيلا تقع فى أيدى الفرنسيين، ثم فر إلى الوجه القبلى ومعه فلول جيشه المهزوم، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
يذكر الرافعى، أن مراد بك قصد الفيوم، واستقر عند ناحية البهنسا، ولم يفكر فى مقاومة الجيش الفرنسى مقاومة جدية، واعتزم نابليون إخضاع الوجه القبلى، إذ رأى أن بقاء قوة معادية فى الصعيد يهدد سلطة الحكم المركزية فى القاهرة، كما يعطل الملاحة فى النيل ويحبس الغلال الآتية من الجنوب إلى الوجه البحرى، يؤكد الرافعى، أن الملاحة تعطلت بالفعل فى النيل فى الشهور الأولى من احتلال الفرنسيين للقاهرة، وحبس مراد بك فى الوجه القبلى السفن المحملة بالغلال إلى القاهرة، فاعتزم نابليون احتلال الصعيد.
أسند نابليون قيادة الحملة إلى الوجه القبلى للجنرال ديزيه، وتكونت الحملة من خمسة آلاف من المشاة والفرسان والمدفعية والمهندسين مزودين بالأسلحة والذخائر والمدافع الحديثة والسفن الحربية، وفقا للرافعى، مضيفا، أن الحملة أقلعت من مصر القديمة والجيزة فى آواخر أغسطس سنة 1798، فوصلت إلى أطفيح، واحتلت بنى سويف والبهنسا، واحتلت أسيوط يوم 25 ديسمبر 1798، ثم وصلت إلى جرجا فى 29 ديسمبر، وطوال مسيرة «ديزيه» كان يطارد جيش مراد بك من بلد إلى بلد.
يذكر «الرافعى» أن ديزيه قرر البقاء فى جرجا للاستراحة، حيث رأى عدم المغامرة بجيشه بالاستمرار فى سيره، لأنه أصبح بعيدا عن القاهرة، وقرر الانتظار فيها للتموين ووصول باقى مراكب أسطوله، التى تعطلت فى سيره من بنى سويف، غير أن تأخر وصول هذه المراكب أدى إلى بقاء قوات الحملة وعدم زحفها ثلاثة أسابيع، فسارت روح الثورة فى المدن وصارت البلاد فيما بين أسيوط وجرجا شعلة من الهياج والثورة.
يؤكد الرافعى، أن الثورة شبت فى نحو أربعين بلدا، وانتهز مراد بك الفرصة ليضم إليه الأعوان والأنصار، وأرسل يستنجد بأشراف مكة وعرب ينبع وجدة، وبعث رسله إلى النوبة يستنفرون الناس إلى مقاومة الفرنسيين، وأرسل إلى حسن بك الجداوى، الذى كان مقيما فى إسنا، وكان بينهما من قبل عداء قديم يعرض عليه الصلح ليتحدا على محاربة الفرنسيين، فلبى الجداوى دعوة الصلح، وانضم إلى خصمه القديم لمحاربة العدو الجديد.
واجه الفرنسيون فى الصعيد فيما بين جرجا وأسيوط ثورة واسعة النطاق بعيدة المدى، غير أنهم عاجلوها قبل أن تجتمع قوتها، وفقا لما يذكره الرافعى، مضيفا: «غلبوا قوتها المبعثرة معتمدين على نظامهم الحربى ومدافعهم القوية وبنادقهم الحديثة، فكانت المعارك التى نشبت بينهم وبين الأهالى أشبه بمذابح فتكت فيها نيران المدافع والبنادق بمجموع من الأهالى محرومين من النظام غير مزودين إلا بأسلحة قديمة».
وفى سوهاج، كانت هناك مواجهة تعد نموذجا لما يراه الرافعى حول المواجهة بين «النظام الحربى والمدافع القوية والبنادق الحديثة»، وبين «أهالى محرومين من النظام»، يذكر الرافعى، أن ديزيه كلف الجنرال بقمع الثورة التى قامت فى سوهاج، فقام من جرجا على رأس فرسانه، ووصل إلى سوهاج فى 3 يناير، مثل هذا اليوم، 1798، حيث كانت تحتشد قوة من الثائرين قدرهم الجنرال دافو بأربعة آلاف من الفلاحين مسلحين بالبنادق والحراب، يشد أزرهم سبعمائة من الفرسان المماليك، ونشب القتال بين الفريقين، ولكن الأهالى على كثرة عددهم لم يكونوا معتادين على خوض المعارك الحديثة، فأصلتهم قوة الفرسان نارا حامية تراجعوا أمامها تاركين ثمانمائة من القتلى كما يقدرهم الجنرال ديزيه، وعاد الجنرال دافو إلى جرجا.
أسفرت معركة سوهاج على نتائج سلبية على صعيد المقاومة ضد الفرنسيين، ويذكر الرافعى: «كانت هذه الواقعة كارثة أصابت الأهالى، وكان طبيعيا أن تفضى إلى إرهاب البلاد الأخرى، وإخماد الثورة فيها، لكنها على العكس لم تكسر شوكة الثائرين، ولم تثنهم عن عزمهم، واحتشدت جموعهم المسلحة على مقربة من أسيوط قادمين رجالا وركبانا من مديريات المنيا وبنى سويف والفيوم، فكلف ديزيه الجنرال دافو بالتوجه ليهاجم هذه الجموع، وليطمئن على الأسطول الفرنسى الذى انقطعت أخباره وتأخر وصوله إلى جرجا، وكان مركز هذا الأسطول محفوفا بالمخاطر، لأنه كان ينسحب فى النيل بين بلاد ثائرة وجموع هائجة».