نزل بطرس غالى باشا، رئيس النظار «الوزراء»، من ديوان الخارجية فى 20 فبراير، مثل هذا اليوم، 1910، ومعه حسين رشدى باشا وعبدالخالق ثروت باشا النائب العام، وأحمد فتحى زغلول باشا وكيل الحقانية وأرمولى بك التشريفاتى بالخارجية، ثم فارق من كانوا معه عند السلم الخارجى، وبينما هو يهم بركوب عربته إذ دنا منه شاب، متظاهرا بأنه يريد أن يرفع له عريضة، وأطلق عليه رصاصتين أصابته إحداهما فى خاصرته، والأخرى فى صدره، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
يضيف «شفيق» أن بطرس باشا ما كاد يلتفت خلفه ليرى صاحب الفعلة حتى أطلق الفتى ثلاث رصاصات أخرى، أصابت إحداهما عنقه من الخلف، واثنتان فى كتفه، وأطلق رصاصة سادسة أصابت ثيابه، وكان خلف القاتل أحد سعاة النظارة فقبض عليه، بينما كان الناظر قد سقط إلى الأرض أمام عربته، فحمله الحاضرون إلى فناء النظارة، وحضر على الأثر الدكتور سعد بك الخادم فأخرج الرصاصات من العنق والكتف، وأفاق الجريح قليلا، ثم نقل إلى مستشفى الدكتور ملتون بباب اللوق، وهناك وافاه الأطباء وقرروا إجراء عملية لإخراج الرصاصات الباقية، وفشلت محاولات إنقاذه، وتوفى.
تلقى الخديو عباس الثانى النبأ وهو فى السراى، ويذكر شفيق باشا: انتقل سموه إلى المستشفى، ودخل على بطرس باشا فى غرفته، ثم دنا منه وقبله والدموع تنسكب من عينيه ودعا له بالشفاء، وكان الجريح أثناء ذلك يقول: «العفو يا أفندينا.. مرسى.. مرسى».. يضيف شفيق أنه بقى مع «غالى» فى المستشفى بعد أن غادرها الخديو، ويؤكد: «أجريت عملية لإخراج الرصاص فارتاح الجريح نوعا، لكن الألم ازداد وارتفعت درجة حرارته، وأصبح فى خطر قريب، ولم تأت الساعة الثامنة والربع مساء، حتى أسلم الروح بين بكاء الحاضرين».
كان الشاب الذى ارتكب الجريمة هو إبراهيم الوردانى وفى الثالثة والعشرين من العمر، وفقا لشفيق باشا، مضيفا: «تلقى العلوم فى المدارس المصرية حتى حصل على شهادة البكالوريا وتوفى والده، فقام بتربيته عمه الدكتور ظفيل حسن باشا، وأرسله إلى سويسرا لتلقى علوم الصيدلة، فمكث فى لوزان سنتين، ثم ذهب إلى إنجلترا فقضى بها سنة وعاد إلى مصر فافتتح بها صيدلية فى شارع عابدين، واتصل بالحزب الوطنى».
يذكر الدكتور محمود متولى فى كتابه «مصر وقضايا الاغتيالات السياسية»: «لم يكد الوردانى يفرغ الرصاص من مسدسه فى جسم ناظر الخارجية، حتى أراد السعاة الذين التفوا حوله أن يضربوه ويفتكوا به، ولكن فتحى باشا زغلول أسرع فمنعهم، كما أنه هو نفسه لم يتردد فى ركل حاجب صفعه على وجهه، وقد قيدوه بحبل من ذراعيه ويديه وأدخلوه فى إحدى غرف النظارة، وفتشت جيوبه فوجد فيها أربع وعشرين رصاصة، وخمسة وأربعين قرشا وساعة فضية»، ولما سئل عن سبب قتل الرئيس أجاب: «لأنه خائن للوطن»، واعترف أنه كاتم أسرار لجنة الحزب الوطنى بالعباسية، وذكرت «الأهرام» يوم 22 فبراير 1910، أن رئيس النيابة الذى كان يحقق معه قال له: «يا مسكين لو أنك عرفت أنه أكبر وطنى وأصدق وطنى فى خدمة البلد لما فعلت فعلتك».
يضيف متولى، أن الوردانى اعترف أنه فكر فى ارتكاب الجريمة بعد أن حضر جلسة مجلس الجمعية العمومية ولاحظ معاملة بطرس الجافة لأعضائها، وأنه اعتزم تنفيذ فكرته عند تقديم مشروع مد أجل امتياز شركة قناة السويس، كما أنه كان يذكر لبطرس باشا رئاسته لمحكمة دنشواى وقرارها بإعدام أربعة من المتهمين شنقا فى نفس القرية، وتوقيعه اتفاقية السودان «1899» التى تنقص من حقوق مصر.
يذكر متولى، أن الوردانى ظل فى النظارة إلى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، ثم نقله مخفورا إلى قسم عابدين، وكان يسير مرفوع الرأس رابط الجأش وكأنه لم يرتكب إثما، ويضيف: «نقلته الحكومة إلى قسم الموسكى، وقضى ليله هادئا دون اضطراب، بينما ظل خادمه الذى سجن معه يبكى وينتحب».. وينقل «متولى» عن مندوب الأهرام: «إننى شهدت تحقيقات كثيرة وقابلت عدة مجرمين، ولكننى لم أر فى حياتى قط كإبراهيم، مجرما ثابت الجأش طلق اللسان».
تولى النائب العام العمومى ثروت باشا التحقيق، وحسب شفيق باشا: «سئل عدة أشخاص ممن لهم صلة بالجانى والذين وجدت أسماؤهم أو صورهم بين أوراقه، وأوراق أعضاء الحزب الوطنى، وفى مقدمتهم محمد فريد بك الذى قرر أنه عرف الجانى منذ سنة 1906 فى جنيف، وأن علاقته بالقاتل كعلاقته بكل عضو من أعضاء الحزب الوطنى، وقبض على، شفيق منصور وعباس حسنى ومحمد الصباحى الطالب بمدرسة رأس التين وعبدالله حلمى المهندس بالأوقاف ومحمد زكى على أفندى المحامى، وفى 25 فبراير أطلق سراح ثمانية من هؤلاء المتهمين، وبقى تسعة منهم الوردانى».