سارت قوات الاحتلال الفرنسى إلى جزيرة فيلة «أنس الوجود»، يوم 6 فبراير 1799، فى كتيبة من مائتى جندى، فرست عند الشلال وسارت على الشاطئ الأيمن للنيل، ولما صارت تجاه جزيرة «فيله»، أراد الفرنسيون أن يعبروا النيل إليها على مراكب الأهالى، فلم يقبل أحد منهم أن يسلم مركبه، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
كان الفرنسيون، الذين جاءوا فى حملة يقودها نابليون بونابرت لاحتلال مصر، يواصلون زحفهم لاحتلال الوجه القبلى، ووفقا للرافعى، فإن سفنهم أقلعت لهذا الغرض من الجيزة فى أواخر أغسطس 1798، واحتلوا بنى سويف فى 31 أغسطس، وواصلوا مسيرتهم فى باقى المحافظات حتى أسوان فى أول فبراير 1799، وسط مقاومة من الأهالى وقوات المماليك، بقيادة مراد بك، وفى وسط القتال والدمار الذى كانت تلحقه القوات الفرنسية، لم يخل الأمر من انبهارهم بما كانوا يشاهدونه من آثار مصر العظيمة.
فى هذا السياق، يذكر الرافعى أن الجنود الفرنسيين حين بلغوا «دندرة» فى 24 يناير 1799، شاهد ضباطهم آثار دندرة القديمة، فبهرتهم عظيما، ووقفوا مبهوتين أمام جمالها وجلالها، وفى ذلك يقول «الكولونيل لاتورنرى» قومندان المدفعية فى تلك الحملة، بعد أن شاهد معبد دندرة: «من يوم أن قدمت إلى مصر وأنا أعيش مريضا حزينا، ولكن دندرة قد شفتنى من سقامى، والآن أنا لا آسف على شىء وأنا فى مصر، ومهما لقيت فيها منذ اليوم، فإن هذه المشاهد ترد إلى الحياة والسرور».
كان إعجاب الفرنسيين بحضارة مصر القديمة يسير بالتوازى مع وجههم القبيح، كقوة احتلال يقاومهم الأهالى بما توفر لديهم من أساليب المقاومة، ويذكر الرافعى، أنه حين أراد الفرنسيون أن يعبروا النيل إلى جزيرة فيله على مراكب الأهالى، لم يقبل أحد منهم أن يسلم مركبه، فاضطر قائد القوات الفرنسية بليار أن يعود إلى أسوان، وبعد بضعة أيام استأنف تحقيق عزمه فلقى مقاومة شديدة من النوبيين فى جزيرة فيله وجزيرة الحساء.
ينقل الرافعى من يوميات «بليار » وصفه لهذه المقاومة: «حمل الأهالى أسلحتهم وصاحوا صيحات القتال، ورأينا النساء ينشدن أناشيد الحرب والهيجاء ويَحثون التراب فى وجوهنا، أما الرجال فأطلقوا الرصاص على رجالنا الذين ركبوا البحر، وكنت قد أحضرت معى مدفعا لإخضاعهم ، فدعوتهم إلى الصلح والسلام، فكان جوابهم أنهم لا يقبلون منا كلاما، وأنهم لا يفرون من أمامنا كما يفر المماليك، واستأنفوا إطلاق الرصاص، فجرح ثلاثة من رجالنا، ولم يكن لدينا مراكب نصل بها إلى الجزيرة، وحاولنا أن نتخذ من جذوع النخل طوفا ينقل الجنود ولكن المياه غمرته، فاضطررنا أن نرجئ احتلال الجزيرة وبقيت الجنود ترابط يوم 19 فبراير على شاطئ النيل تجاه الجزيرة، واستجلبت من أسوان بعض ألواح الخشب للعبور عليها.
وفى اليوم التالى، وصلنا إلى الجزيرة، فأطلق علينا الفلاحون الرصاص ولكن لم يصب أحدا من الجنود ثم فروا تاركين مواشيهم ومؤونتهم واحتللنا الجزيرة، وفى 21 فبراير، مثل هذا اليوم، 1799، احتللنا الجزر الأخرى المجاورة لجزيرة فيله، التى اشترك الأهالى فى الثورة، ثم عاد الجنود وبقيت فصيلة منهم لتستولى على مؤونة الأهالى من التمر، وكانت نتيجة هذين اليومين أن قتل من الأهالى 30 رجلا، واستولينا على 200 بندقية و200 طبنجة وسيف، وشىء كثير من التمر واللحم والمؤونة».
يذكر «ج. كرستوفر هيرولد» فى كتابه «بونابرت فى مصر»، ترجمة فؤاد أندراوس، مراجعة دكتور محمد أحمد أنيس، جانبا من مقاومة الأهالى للفرنسيين، وينقل من يوميات «بليار»: «علت صيحات الأهالى، وراحت النسوة ينشدن أناشيد المعركة وينثرن الغبار، ثم أعطين إشارة القتال».. يذكر «هيرولد» أن «بليار» أمر ببناء أطواف واقتحم جزيرة فيله ودهم النساء.. يضيف هيرولد نقلا عن ضابط فرنسى آخر هو «دينون» قوله: «ألقى الجميع الرجال والنساء والأطفال بأنفسهم فى النهر، وكنت ترى النساء الثابتات على فطرتهن الوحشية، يغرقن الأطفال الذين لا يستطعن حملهم، ويشوهن بناتهن حماية لهن من اغتصاب المنتصرين، ووجدت فتاة فى السابعة أو الثامنة خيطت «...» بطريقة منعتها من قضاء الضرورة العاجلة، ولم أستطع إنقاذ حياة هذه المخلوقة الصغيرة التعسة إلا بعد عملية مضادة وحمام، وكانت الفتاة غاية فى الجمال».
يذكر الرافعى، أن الفرنسيين باحتلالهم الجزر الواقعة فى شلال أسوان، اطمأنوا على حدود مصر، وأخذ الجنرال بليار يحصن أسوان وعزم على إقامة قلعة فيها، لقطع الطريق على المماليك إذا هموا بالخروج من مكمنهم فى بلاد النوبة ومعاودة الهجوم عليهم.