تدخل الحرب فى أوكرانيا عامها الثانى، وتعيد أجواء الحرب الباردة، رغم أن الأخيرة انتهت فى تسعينيات القرن العشرين، لكن الحرب فى أوكرانيا كانت أول وأكبر مواجهة بين روسيا والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة، بل إن الصراع أعاد التذكير بأجوائها، مع تزايد مخاوف الصدام النووى.
وبينما تنفى الولايات المتحدة والغرب وجود نية للإضرار بروسيا، فإن موسكو ترى العكس، وتنظر للصراع على أن المقصود به إضعاف موسكو، فقد أعلن الرئيس الروسى بوتين، فى الخطاب السنوى منذ إعلان الحرب، تعليق العمل بمعاهدة «ستارت»، للحد من الأسلحة الاستراتيجية الموقعة مع الولايات المتحدة، واتهم الغرب - فى خطابه السنوى للأمة - باستخدام النزاع فى أوكرانيا للقضاء على روسيا، وقال: «إن روسيا تواجه اليوم خطرا وجوديا ومن المستحيل هزيمتها فى أرض المعركة، وستتعامل بطريقة مناسبة إزاء تحويل الصراع إلى مواجهة عالمية، إن تدفقات المال الغربية للحرب لا تنحسر، والغرب أخرج المارد من القمقم»، وقال بوتين: «النخب الغربية لا تخفى هدفها الخاص بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، أى القضاء علينا مرة واحدة، وإلى الأبد».
وفى مواجهة هذا، أعلن الرئيس الأمريكى جو بايدن، أن «الولايات المتحدة ودول أوروبا لا تسعى للسيطرة على روسيا أو تدميرها»، فقد أعلن بايدن هذا من العاصمة البولندية وارسو، التى كانت مقرا لحلف وارسو وقت الحرب الباردة، ردا على إنشاء حلف الناتو، وبدا أن حديث بايدن من وارسو له دلالات سياسية، خاصة أنه أكد أن حلف شمال الأطلنطى «الناتو»، يحتاج إلى الولايات المتحدة، و أن الشراكة بين أمريكا وأوروبا هو التحالف الوحيد الأكثر أهمية فى التاريخ، وأى هجوم على أى دولة فى الحلف يعد هجوما على سائر أعضاء الحلف، وفى حال وضع تصريحات بوتين وبايدن فى المواجهة، فإن العالم أمام حرب باردة ساخنة، تتجاوز أشكال الصراعات الطبيعية.
التوتر بين روسيا والغرب بسبب أوكرانيا لم يتوقف، لا قبل ضم القرم إلى روسيا، ولا حتى بعده، لكن إعادة الحديث عن دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو، أشعلت التوتر، حيث رأت روسيا أن وجود الغرب فى فنائها الخلفى أو ضم أوكرانيا لحلف الأطلنطى يضاعف من الاختلال فى العالم، خاصة فى ظل تصريحات صدرت من أوروبا ـ خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة ـ تشجع أوكرانيا على الانضمام، واتخذت روسيا خطوات تصعيدية استبعدت معها أوروبا أن تقدم روسيا على التحرك عسكريا.
وفى فبراير 2022 - وبعد أسابيع من الشد والجذب والتهديدات المتبادلة بين روسيا والغرب - قرر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا، وإبرام اتفاقيات صداقة مع حكومتى الجمهوريتين، يمكنه بموجبها دخول الشرق الأوكرانى ليتم إطلاق عملية عسكرية، فى تصعيد قابلته الولايات المتحدة والغرب بحزمة عقوبات، اتسعت وتطورت إلى مساعدات عسكرية وأمنية مباشرة.
على مدار عام راهن كل طرف على أن يستسلم الطرف الآخر، بينما العالم يدفع ثمنا باهظا لصراع معقد يتخذ أشكالا معلنة وأخرى خفية، والظاهر فيها هو الأزمة الاقتصادية والتجارية التى ألقت بظلالها على الجميع فى الطاقة والغذاء، لكن فى الخلفية بدا أن الصراع استكمال لصراع نفوذ وإعادة ترتيب الأوراق والمصالح الاقتصادية، فى نظام عالمى ظل يتشكل طوال ثلاثة عقود.
تدخل الحرب فى أوكرانيا عامها الثانى، وتواصل دول العالم دفع ثمن باهظ لصراع من الصعب أن ينتهى بالضربة القاضية، ويبتعد حلم وقف الحرب، خاصة أن المنظمات الدولية والدول الكبرى، بل والنظام العالمى الحالى، تقف عاجزة أمام صراع يتسع وينعكس سلبا على مصالح الشعوب، والاقتصادات.
أوربا لم تواجه شتاء صعبا بسبب التخلى عن الغاز الروسى مثلما كان متوقعا، لكنها تواجه انعكاسات أزمة اقتصادية صعبة، مع باقى دول العالم، بينما موسكو تخطط لإنشاء خط غاز نحو الصين وآسيا، وتسعى دول العالم لإعادة ترتيب أولوياتها وعلاقاتها التجارية لتأمين احتياجاتها من الطاقة والغذاء، ضمن السياسات البديلة، حتى يمكنها تعويض الخلل الذى تسببت فيه صدمة الحرب، وهو ما يظهر خلال الشهور المقبلة.