«Kosem Sultan» أشهر سلطانات الدولة العثمانية التى حكمتها فعليا فى عام 1617 ولمدة 37 عاما، مارست نفوذها بصورة غير مسبوقة أو متبوعة، ووصلت إلى قمة المجد والسلطة فى الدولة العثمانية فى مشهد استثنائى، وهى أكثر سيدة احتكرت منصب «السلطانة الأم» خلال مدة سلطنة ابنيها «مراد الرابع، وإبراهيم الأول»، لفترة امتدت لربع قرن، وكانت نائبة السلطان لابنها «مراد الرابع» ثم حفيدها «محمد الرابع» لما يقارب 12 عاما، فتجمع بين يديها سلطات واسعة مكّنتها من أن تكون ضلعا أساسيًا فى السياسة العثمانية فى النصف الأول من القرن الـ17 الميلادى.
ووفقا لوكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك" ذكر كتاب «الدولة العثمانية فى التاريخ الإسلامى الحديث» للكاتب إسماعيل أحمد ياغى، 1996، وموقع ottomanarchives، وموقع aljarida، اسمها خاصكى كوسِم ماه بيكر سلطان أو كوسم مهيبكر، أو «كوسم سلطان»، اسمها الحقيقى «أناستاسيا»، ولدت فى عام 1590، وهى ابنة قديس يونانى فى جزيرة تينوس، وقعت فى أسر بكلربيك البوسنة، وأرسلها ضمن مجموعة هدايا إلى قصر الباب العالى فى إسطنبول، وحضرت كفتاة صغيرة فى قافلة للأسرى إلى إسطنبول.
دخلت «أناستاسيا» إلى القصر العثمانى «توبكابى»، وبمجرد أن رآها السلطان العثمانى الرابع عشر «أحمد الأول»، وقع فى غرامها من النظرة الأولى وقرر ضمها للحريم المخصصات لخدمته.
دخولها الإسلام وتغير اسمها
ودخلت «أناستاسيا» الإسلام وغيّرت اسمها لـ«كوسِم»، وأطلق عليها اسم «ماه بيكر» أى «وجه القمر» لجمالها الأخاذ، وأصر السلطان «أحمد الأول» على الزواج بها رغم معارضة والدته السلطانة «هاندان» ورفض السلطانة الكبرى «صفية» التى تتحكم بأمور الحرملك بإرادة مطلقة لأى ارتباط بين السلطان وهذه الجارية، لكن السلطان خالف برغبته قواعد الحرملك وأصوله، ومضى فى تنفيذ قراره وتزوجها وأطلق عليها اسم «السلطانة القائدة»، وأنجبت منه السلطان «مراد الرابع» والسلطان «إبراهيم الأول»، وهكذا بدأت حياتها الجديدة فى قصر «توبكابى».
و«كوسِم سلطان» كانت من أشهر وأقوى السلطانات فى تاريخ الدولة العثمانية، وعندما وصلت إلى سن 15 عاما من عمرها، أصبحت من أهم الشخصيات المفضلة عند زوجها أحمد الأول وأثرت عليه بذكائها، لكن حياتها تغيرت عندما فارق زوجها السلطان «أحمد الأول» الحياة قبل بلوغه سن الـ30، لأنها لم تهتم بالتدخل المباشر فى أمور السياسة للدولة العثمانية، أيام سلطنة زوجها «أحمد الأول»، إلا أنها بعد وفاته لم تكف عن لعب أدوار سياسية شديدة التعقيد فى ظل واحدة من الفترات السيئة فى تاريخ الدولة العثمانية، فأظهرت عشقها للسلطة الذى لم يقل يوما بعد أن رفضت أن يلى السلطنة الأمير «عثمان» ابن ضرتها وعدوتها «خديجة ماه فيروز»، خوفا من ضياع فرصة ابنها الأمير «مراد الرابع» فى الحكم، الذى كان وقتها لا يزال طفلا صغيرا.
فضلت «كوسم سلطان» أن تستعين بشقيق زوجها الأمير «مصطفى» الذى لم يكن راغبا فى ارتقاء العرش، بل كان يريد الهرب بعيدا، خاصة أن معظم رجال الدولة لم يقتنعوا بشخصية الأمير «مصطفى»، المعروف بخفة عقله وطيشه، ولم يكن الأمر إلا مجرد اتفاق بين السلطانة «كوسم سلطان» ورجال الدولة على تصعيد الأمير «مصطفى»، لإتاحة الوقت أمام السلطانة لتحسم أمرها مع كبار قادة الجيش المنقسمين حول أى من أبناء السلطان «أحمد» أحق بولاية العرش، هكذا وصل السلطان «مصطفى» إلى سدة الحكم، كأول أخ يلى السلطنة بعد أخيه فى التاريخ العثمانى.
ولم تكن «كوسم سلطان» وحدها فى هذا التدبير، بل شاركها فيه قادة فرق الانكشارية أصحاب الكلمة العليا فى إسطنبول آنذاك، الذين أقروا تقاسم السلطة بانفرادهم بإدارة الدولة والحجر على السلطان الجديد، فيما تطلق يد السلطانة «كوسم سلطان» داخل الحرملك لتصبح سيدته الأولى بلا منازع، لتدشن بذلك سيادتها فى الحرملك، وعند بلوغها عمر 28 عاما، كانت «كوسم سلطان» قد أوجدت لنفسها مكانا فى السلطنة العثمانية، فكانت تدير جلسات الديوان وكان لها دور خاص فى الحكم العثمانى، لتصبح أحد واضعى السياسية العليا للدولة العثمانية على مدار نصف قرن تقريبا.
لم تدم سلطنة «مصطفى الأول» إلا 3 أشهر، هى مدة المشاورات حول تصعيد الأمير «عثمان الثانى» الابن الأكبر للسلطان «أحمد» سلطانا للبلاد، ما يعنى أن «خديجة ماه فيروز» انتصرت فى معركتها ضد ضرتها «كوسم سلطان»، وأصبح السلطان «عثمان الثاني» السلطان الجديد للبلاد، لكن زوجة أبيه «كوسم سلطان» لم تستسلم للواقع الجديد.
ولم تجد السلطانة مفرا من التحالف مع الانكشارية للتخلص من ابن ضرتها، خاصة أن السلطان الشاب اتبع سياسة والده الراحل السلطان «أحمد» وقرر تقليص نفوذ الحرملك ووضع رؤية إصلاحية لأحوال الدولة العثمانية المتدهورة، رغم صغر سنه تولى الحكم وهو فى الـ13 من عمره، وهو ما لم ترض به السلطانة «كوسم سلطان»، وعملت على شراء ذمم قادة الجيش، وتخلصت من والدته التى كانت سنده فى الحرملك فى عام 1621، وبعدها عقدت تحالفا مع قيادات الانكشارية بهدف التخلص من السلطان عثمان الثانى ودبروا مؤامرة لاغتياله.
عاد السلطان «مصطفى الأول» للحكم مرة ثانية كفترة انتقالية حتى يستطيع «مراد» أن يدير شؤون الدولة العثمانية، لكن «مصطفى الأول» لم يستطع إدارة شؤون البلاد وعمت الاضطرابات والانقسامات، واتفقت «كوسم سلطان» مع الصدر الأعظم وبقية الوزراء على تدارك الموقف وعزل «مصطفى»، وتولية ابنها «مراد» الحكم، وكان وقتها يبلغ من العمر 11 عاما، وحصلت «كوسم سلطان» على لقب «السلطانة الأم» وأدارت البلاد بصفتها نائبة السلطان.
فى عام 1632، انتهت فترة نيابة السلطانة «كوسم سلطان»، التى دامت نحو 9 أعوام، وأقصاها ابنها من المشهد السياسى سريعا، بعد أن قرر ألا يسمح لأية قوة كانت بالتدخل فى إدارته للبلاد، وأمر والدته بأن تقطع اتصالاتها برجال دولته، وهددها بالإقصاء والنفى بعيدا عن العاصمة إذا لم تستجب لأوامره.
وعند استلام «مراد الرابع» عرش السلطانة، أدخل الكثير من الإصلاحات وضرب بيد من حديد مواطن الفوضى، وكان يقتل ويعدم كل من يخالف أوامره، وقرر استعادة أمجاد الدولة فى الخارج، وقاد جيوشه فى حربه الواسعة ضد الدولة الصفوية فى الجبهة العراقية، وأظهر أثناء قيادته للجيوش العثمانية حزما ومقدرة أعادت إلى الأذهان عصر سليمان القانوني، وفتح فصلا جديدا من فصول الظلم والقمع والخوف، وحاول التخلص من أقرب الناس إليه وهو شقيقه «إبراهيم»، طمعا بالعرش والثروة، ويرجع لـ«كوسم سلطان» الفضل فى إنقاذ السلالة العثمانية من الانقراض بعد أن منعت ابنها «مراد» من قتل أخيه، وتوفى «مراد» فى عام 1640، عن عمر ناهز الـ27، ولم ينجب ولدا.
كوسم سلطان وطموح السياسة والسلطة
رأت «كوسم سلطان»، التى لم تترد يوما فى عمل أى شىء فى سبيل السياسة والسلطة، فى وفاة ولدها المستبد فرصة لتعود إلى صدارة المشهد من جديد بإحياء تحالفها مع قادة الجيش الذين يطلق عليهم «آغوات أوجاق أغالرى» لتقاسم إدارة الدولة فى ظل سلطنة الحاكم الجديد السلطان «إبراهيم الأول» ضعيف الشخصية، وهكذا عادت السلطانة الأم إلى نفوذها السابق مرة أخرى.
تولى أخوه «إبراهيم» الحكم، لكنه لم يكن قادرًا على إدارة الدولة نظرا لمعاناته من اضطرابات نفسية لازمته طوال حياته بسبب مشاهد الدماء وإعدام أخوته الكبار وكان يطلق عليه اسم «المجنون»، ففرضت «كوسم سلطان» سيطرتها على شؤون الدولة وحكمت بدلا عنه وبعيدًا عن قصر «توبكابى».
مع مرور الوقت، أدرك «إبراهيم» ألاعيب أمه وهددها بالنفى فى حال لم تتوقف عن التدخل فى الحكم، ما أغضبها كثيرا وقررت ألا تتنازل عن نفوذها وسلطاتها، وكانت ترى أن إزاحة ابنها السلطان الذى هددها صراحة بالنفى، ستعود عليها بالفائدة لأن حفيدها ولى العهد الأمير محمد شاه زاده طفل لم يتجاوز عمره السادسة بعد، وفى حال توليه السلطنة فستعين السلطانة «كوسم سلطان» فى منصب نائبة السلطان وتصبح من جديد على قمة هرم السلطة العثمانية بلا منازع.
قتل ابنها وتسليمه للجلاد لقتله
وتحققت رغبة السلطانة الأم ونجحت المؤامرة فى إزاحة ابنها السلطان «إبراهيم» من فوق العرش، وأعدم بعد عزله بـ10 أيام فى 18 أغسطس 1648م، ولم تكتف بخلع ولدها بل سلمته إلى الجلاد ليقتله، عرفت كيف تنتقم من ابنها الذى هددها يوما بالنفى فى حالة استمرارها فى التدخل فى شؤون الدولة.
وتحقق حلمها بالحصول مجددا على منصب نائب السلطان بصلاحيات غير مسبوقة، بعدما تم تعيين ابن السلطان القتيل، الطفل «محمد الرابع» الذى لم يبلغ بعد الـ7 من عمره، سلطانا على أقوى دولة فى العالم، وحصلت والدته «خديجة تارخان»، التى كانت تكره «كوسم سلطان»، على لقب «السلطانة الأم».
اغتيالها
اشتد العداء بين «خديجة تارخان» والدة السلطان «محمد الرابع»، الذى بدأ نفوذها يزداد، وبين جدته «كوسم سلطان»، واستمرت هذه العداوة لمدة 3 سنوات، حتى قررت «كوسم سلطان» قتل حفيدها «محمد الرابع» ذى العشر سنوات ويتولى أخوه الطفل «سليمان» السلطنة، كانت تفضله لأنه من أم أخرى واقعة تحت نفوذها، إلا أنّ السلطانة «خديجة تارخان» كشفت مخطط «كوسم سلطان»، فأمرت باغتيالها بمساعدة رئيس آغوات الحرملك، وفى ليلة ظلماء يوم 3 سبتمبر 1651، دخل العبيد جناح نائبة السلطانة «كوسم سلطان» ونفذوا فيها حكم الإعدام خنقا، لتلقى حتفها وهى فى الـ62 من عمرها، ودُفِنت «كوسم سلطان» بجانب قبر زوجها السلطان أحمد الأول فى منطقة «سلطان أحمد».
تاريخ خروجها من السلطة
كان خروج السلطانة «كوسم سلطان» من المشهد السياسى حدثا جللا، ورغم السمعة السيئة التى حصلت عليها «كوسم سلطان» كامرأة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة فى سبيل الحكم والسلطة، فعرفت «كوسم سلطان» كيف تكسب ودّ رعايا الدولة العثمانية من خلال أعمالها الخيرية، فكانت تؤدى ديون المعسرين، وفى كل عام من شهر شعبان كانت تزور السجن وتدفع الديون عن المحكومين الذين حكم عليهم بالسجن بسبب ديونهم وتطلق سراحهم من السجن، وأنفقت على زواج كثير من الفتيات الفقيرات وجوارى الحرملك، ولها جامع فى حى «أسكودار» مشهور باسم «الجامع ذو الخزف»، مزين بأفخر أنواع البورسلين والخزف ويعتبر تحفة فنية رائعة، ولها خان كبير معروف باسم «خان الوالدة» أوقفته على مسجدها، وبنت أيضا حماما ومدرسة للصبيان وسبيلا وعين ماء، ولها وقفية مؤرخة بعام 1640م، أوقفت خلالها أموالا كثيرة للإنفاق على الفقراء الذين يقيمون على الطريق إلى مكة المكرمة.