بعد غياب دام خمس سنوات حضر أندريه جروميكو، وزير خارجية الاتحاد السوفيتى إلى مصر، وجاءت زيارته فى وقت لم تكن العلاقة بين القاهرة وموسكو فى أفضل أحوالها، فبعد سنوات من ازدهارها مع جمال عبدالناصر، شهدت تدهورا كبيرا مع الرئيس السادات، الذى بدأت علاقاته مع أمريكا فى النمو، وكان إسماعيل فهمى وزير خارجية مصر من عام 1973 حتى استقالته احتجاجا على مبادرة السادات بالسفر إلى إسرائيل فى 19 نوفمبر 1977 أحد الشهود على هذا التدهور مع السوفيت، والنمو مع الأمريكان، ويكشف جانبا من أسراره فى مذكراته «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط».
يؤكد «فهمى» أن كراهية السادات للسوفيت كانت كبيرة ودائمة، ولم يستطع أبدا أن ينحيها لمصلحة مصر فى الدرجة الأولى، أى أن يقيم علاقات طيبة مع الاتحاد السوفيتى، حتى يوازن الروابط الجديدة التى بدأت تنمو بين مصر وأمريكا، يضيف: «حتى عندما تبين أن الولايات المتحدة ليست مستعدة، لأن تزود مصر بالعون العسكرى المطلوب، لم يكن ذلك كافيا ليوضح للسادات أننا فى حاجة شديدة للعون السوفيتى، وفوق كل هذا فإنه كان ينتهز كل فرصة لينفث عن حقده على الاتحاد السوفيتى علنا، وفى أحاديثه الخاصة، وكانت تصريحاته المتكررة المعادية للاتحاد السوفيتى تختار بعناية، وتعرض بصورة بارزة فى الصحف المصرية، ما عقد مهمتى لإقناع الزعماء السوفيت بأن مصر لا تنتقل إلى المعسكر الأمريكى، ولكنها فقط تقيم علاقات مع القوتين العظميين كلتيهما، وأن هذا التحول فى حد ذاته ليس أمرا سهلا».
يذكر «فهمى»، أن كل الاتصالات بين مصر والاتحاد السوفيتى فى عام 1974، جرت وسط جو مشحون بالمشكلات المعلقة، يضيف: «عقب رحلتى إلى موسكو فى يناير انقضت فترة أسبوعين ثم زار جروميكو القاهرة فى مارس 1974، وكانت زيارته هذه هى الأولى لمصر بعد غياب دام خمس سنوات، وفى 4 مارس، مثل هذا اليوم، 1974 استقبله السادات، ويكشف فهمى جانبا مما دار فى هذا الاجتماع مدللا به على مشاعر السادات نحو السوفيت.
يذكر، أن «جروميكو» نقل أفضل التحيات وتأكيدات الصداقة من الزعماء السوفيت، وخاصة بريجنيف، سكرتير الحزب الشيوعى السوفيتى، ثم بدأ فى عرض عام لتطورات العلاقات المصرية السوفيتية، مؤكدا أن ما يقوله يمثل آراء اللجنة المركزية، ويؤكد «فهمى»، أن المذكرة التى كان يقرأ منها «جروميكو» كانت مباشرة وواضحة وبدون غموض، وتعكس رغبة الزعماء السوفيت فى معرفة موقف العلاقات المصرية السوفيتية.
يتذكر «فهمى» أن الجو العام كان مشحونا بالتوتر، إذ كان الرئيس السادات غاضبا لأن الاتحاد السوفيتى، كان ما زال غير متجاوب إزاء طلباته السابقة بالأسلحة وقطع الغيار، ومن ناحيتهم كان السوفيت قلقين بشأن نمو العلاقات المصرية الأمريكية، وانعكست هذه الحالة على الاجتماع حسبما يكشف فهمى، قائلا: «فى إحدى اللحظات وفجأة قاطع السادات جروميكو معترضا على ما أسماه «تدخلا فى الشؤون الداخلية المصرية» وأعلن أن «مصر دولة مستقلة، ولن يقبل أى تدخل فى شؤونها».
يؤكد فهمى، أن جروميكو اندهش مما قاله السادات، إذا أنه فى الحقيقة لم يقل بالفعل أى شىء يمثل تدخلا فى شؤون مصر الداخلية، وأوضح «جروميكو» أنه يقرأ من ورقة مكتوبة عن السياسة السوفيتية، وليس بها ما يمكن أن يعتبر تدخلا بأى صورة، وأضاف قائلا: «ربما يكون هناك خطأ فى الترجمة، وأنه إذا كان الأمر كذلك فيجب تصحيحه على الفور».
يكشف فهمى، أنه وحتى يتجنب أى تعقيدات لا مبرر لها همس للسادات باللغة العربية أن جروميكو لم يقل أى شىء خطأ، وعندئذ قال السادات: «فى هذه الحالة يمكننا أن نستأنف المحادثات»..يعلق فهمى: «تظهر هذه الحادثة بوضوح موقف السادات تجاه السوفيت، فكان يشعر بعدم الأمان وبحساسية مبالغ فيها فى كل مرة يتعامل معهم، لذلك نجده تخيل أن جروميكو قال ما يمكن تفسيره بأنه تدخل فى شؤون مصر الداخلية، أما مع الأمريكيين فكان هادئا ومرنا، وكثيرا ما يتعمد استعمال عبارات الألفة والود، مثل «صديقى العزيز هنرى»، والاستعداد التام لقبول أى اقتراح أمريكى دون تردد، وعلى العكس تماما مع السوفيت كان أسلوبه هو الشك الشديد، والاستعداد لتفسير كل عبارة كهجوم ضد مصر بل إن المقصود هو إهانته شخصيا».
يستكمل فهمى ذكرياته، قائلا: «استمر جروميكو فى نقل محتوى الرسالة التى ركزت على رغبة الزعماء السوفيت فى تنمية وتعزيز العلاقات الودية مع مصر، وتأكيد تأييدهم لكل الخطوات التى اتخذت لإزالة العدوان الإسرائيلى، وضرورة التفاوض بشأن اتفاق سلام شامل من خلال مؤتمر جنيف، كما أشاروا أيضا إلى رغبتهم فى المشاركة فى تطهير قناة السويس، وهنا رحب السادات بهذا الطلب، وأبلغ جروميكو بأن «فهمى أبلغ السفير السوفيتى فى القاهرة من قبل بموافقتنا».