رغم أنها ابتعدت عن الأضواء منذ سنوات طويلة، بل إنها كانت فى أيامها الأخيرة غير قادرة على التواصل بحكم السن والمرض إلا أن وقع خبر وفاتها كان صادمًا بشكل كبير، رحيل سلطانة الطرب الفنانة الكبيرة شريفة فاضل، يعنى أننا فقدنا جزءًا مهمًا من تاريخنا الفنى ورمزًا من رموز الفن الجميل، أما على المستوى الشخصى فكان وقع هذا الخبر ثقيلاً مؤلمًا رغم أنه كان متوقعًا، خاصة خلال الأيام الأخيرة من حياة الفنانة الكبيرة التى أثرت عليها عوامل السن والمرض، فمنذ فترة نتابع أخبار الحالة الصحية للفنانة الكبيرة أم البطل شريفة فاضل، التى اختصتنا بآخر حواراتها، بل واستقبلتنا فى بيتها فى آخر ظهور لها رغم أنها كانت قد قطعت أى تواصل مع كل وسائل الإعلام والصحافة، ولكنها كانت تتواصل معنا خلال الفترة التى كانت قادرة فيها على التواصل ولم ينقطع التواصل معها منذ عام 2017.
وقبل رحيلها قرر "انفراد" تكريم أم البطل وسطانة الطرب تقديرًا وعرفانًا بما قدمته للوطن من تضحية وللفن من إبداع، وزار انفراد الفنانة الكبيرة بمنزلها فى لقاء حصرى، واحتفل بعيد ميلادها، وأهداها درع تكريم وباقة ورد تقديرًا لتضحياتها، حيث قدمت ابنها البطل سيد السيد بدير شهيدًا فداء للوطن فى حرب الاستنزاف، كما أثرت الفن والطرب بمئات الأغانى التى عاشت معنا فى كل المناسبات، أعددنا درعًا وذهبنا إليها نحمل باقة ورد وفرحت الفنانة الكبيرة كثيرًا لهذا التكريم، وخرجت من غرفتها التى لم تكن تغادرها لاستقبالنا، وكان هذا آخر ظهور للفنانة الكبيرة وآخر حديث لها مع الإعلام، وبعده لم تعد قادرة على التواصل، ولا على مغادرة غرفتها، حتى رحلت بعد رحلة حافلة بالعطاء الفنى والإنسانى.
عاشت الفنانة الكبيرة سنوات فى عزلتها، كانت تشعر بالاكتفاء والزهد فى الحياة بعد أن مرت بكل الأمجاد والأحزان والصدمات، كانت تتحدث قليلاً فتشعر فى حديثها بمدى تصالحها مع نفسها ومع الزمن وتغيراته وآثاره على البشر.
حياتها حافلة بالأحداث، فهى حفيدة المقرئ أحمد ندا مؤسس دولة التلاوة، واسمها الحقيقى فوقية محمود أحمد ندا، ولدت فى 15 سبتمبر عام 1938 وانفصل والداها، وتزوجت والدتها من إبراهيم الفلكى أحد أثرياء مصر، الذى أطلق اسمه على ميدان الفلكى الشهير.
عاشت شريفة فاضل مع والدتها وزوجها فى عوامة بالنيل، وكان يزور الأسرة كبار الأثرياء ورجال الدولة ومنهم الملك فاروق، الذى استمع إلى صوتها وهى طفلة فصفق لها.
وبدأت طريق نجوميتها عندما سمعها رجل الأعمال الشهير "السيد ياسين" صاحب مصنع الزجاج الشهير، فاقترح على والدتها وزوجها أن تدخل المجال الفنى كمطربة فى فيلم من إنتاجه، وهو فيلم "الأب"، الذى غنت ومثلت فيه وهى طفلة.
شجعها زوج والدتها وألحقها بمعهد التمثيل والإذاعة قبل أن تكمل سن 13 عامًا، واختار اسمها الفنى الشاعر صالح جودت، الفنى وعرفها على كبار الشعراء والكتاب والفنانين.
وفى منتصف الخمسينيات تزوجت شريفة فاضل من المخرج والممثل السيد بدير، وأنجبت منه ولدين "سيد، وسامى"، وحققت نجاحات كبيرة، ولكنها انفصلت عن السيد بدير بسبب غيرته الشديدة.
حققت شريفة فاضل نجاحات كبيرة وقدمت العديد من الأعمال، التى تعتبر علامات فى تاريخ الطرب، ومنها "فلاح كان فايت بيغنى، حارة السقايين، أه من الصبر وأه، أمانة يابكرة، أه يالمكتوب، الليل، مبروك عليك يامعجبانى"، وغيرها من الأغانى الشهيرة التى حققت نجاحا وانتشارا واسعا، كما قامت ببطولة عدد من الأفلام، ومنها: "أولادى، وداعًا ياغرامى، حارة السقايين، مفتش المباحث، ليلة رهيبة، اللعب بالنار، فى مهب الريح، فاتنة الجماهير، غازية من سنباط، سلطانة الطرب"، ووصل رصيدها إلى 20 فيلما، 15 منها كممثلة، و5 كمطربة، وتعاونت مع كبار الملحنين ومنهم رياض السنباطى ومحمد الموجى ومنير مراد وبليغ حمدى، وحازت لقب سلطانة الطرب لجمال صوتها وأدائها شخصية منيرة المهدية، التى أسندها لها مخرج الروائع حسن الإمام.
وكانت صدمة عمرها حين استشهد ابنها البطل الطيار سيد السيد بدير فى حرب الاستنزاف، فأصيبت بصدمة شديدة، وقالت فى حوارها معنا: "استشهد ابنى خلال حرب الاستنزاف وقبل انتصارات أكتوبر، بعد تخرجه وتلقيه تدريبات على الطيران فى روسيا، كان ابنى الكبير وأول فرحتى، وتوقفت عن الغناء بعد هذه الصدمة".
وتحدثت عن عودتها للغناء بعد هذه الصدمة قائلة: "فرحت لما انتصرنا فى أكتوبر وطلبت من صديقتى الشاعرة نبيلة قنديل تكتب أغنية عن أم البطل المقاتل، علشان كل أمهات الأبطال اللى استشهدوا واللى انتصروا، ونبيلة قعدت فى غرفة ابنى الشهيد نص ساعة، وخرجت ومعها كلمات أغنية أم البطل، وبكيت وأغمى عليا لما سمعت الكلمات، وبعدها طلبت من الملحن على إسماعيل تلحينها وذهبت إلى الإذاعة لتسجيلها".
بكت أم البطل وهى تتذكر هذا اللحظات:" كلمات الأغنية كانت صعبة عليا، واتأثرت وأغمى عليا أكتر من مرة وأنا باغنيها، لدرجة إن فايزة أحمد قالتلى طالما مش قادرة تغنيها بلاش، لكن أصريت وسجلتها فى يوم واحد، وكنت دايما باغنيها آخر أغنية فى الحفلات علشان ما بقدرش أغنى بعدها".
أصيبت أم البطل بنزيف فى الشرايين أثناء غناء الأغنية فى إحدى الحفلات وتوقفت فترة عن الغناء، ثم عادت من جديد.
كما تحدثت عن رائعتها "تم البدر بدرى"، مؤكدة أنها كانت تحرص أن يكون لها أغنية فى شهر رمضان، فكتب كلماتها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ولحنها الملحن عبد العظيم محمد، ورفضت الحصول على أجر مقابل غنائها، قائلة: "كان كفاية عندى يكون ليا أغنية تتذاع فى شهر رمضان، والحمد لله إن الناس لسه بيغنوها حتى لو مش عارفين اسم اللى غنتها".
وكانت شريفة فاضل سببا فى اكتشاف وشهرة عدد من نجوم الفن، بعد أن أسست كازينو الليل فى الهرم، الذى كان ملتقى لأهل الفن، وقدمت فيه عددا من الفنانين، وقالت عنه:" كنت عاملة كازينو الليل للعائلات، كان مطعم ومسرح وكنت حاطة شروط علشان يكون مكان لائق ومناسب للعائلات وكان ممنوع ستات يدخلوا لوحده وكان محمد عبد الوهاب بييجى علشان يسمع أحمد عدوية".
وتزوجت شريفة فاضل اللواء طيار على زكى، وبعد إصابته بالشلل باعت كازينو الليل وتفرغت لخدمته وأنجبت منه ابنها تامر الذى كان يقيم معها.
وعانت "أم البطل" من التجاهل خلال فترة التسعينات وتجاهلها المسئولون عن حفلات الإذاعة والتليفزيون الرسمية، رغم ما قدمته من أعمال وطنية ودينية ومكانتها التى كانت تحظى بها فى عهد الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات، فاعتزلت الغناء رغم قدرتها على العطاء فى بداية التسعينات، وعاشت سلطانة الطرب وأم البطل سنواتها الأخيرة فى حالة هدوء وسكينة متصالحة مع نفسها وعمرها وتاريخها بعد سنوات تربعت فيهاعلى عرش الشهرة والنجومية، وسمعها الأمراء والملوك والرؤساء، واستحوذت على قلوب البسطاء، وكانت الفنانة فيفى عبده من أكثر أبناء الوسط الفنى حرصاً على التواصل مع الفنانة شريفة فاضل وزيارتها.
وفى آخر حوار أجرته معنا قالت بنبرة من وصل إلى حكمة الحياة: "أنا كبرت وتعبانة واللى بيكبر ماحدش بيفتكره ولا يزوره، بتوع زمان راحت عليهم، الدنيا تلاهى وماحدش فاضى لحد، أنا خلاص راحت عليا ومش هاخد زمنى وزمن غيرى، كفاية إن الناس بتسمعنى لحد دلوقت".. قالت السلطانة هذه الكلمات بصوت يملؤه الحزن وتظهر من بين نبراته علامات الإرهاق والمرض والتسليم بأن الزمن لم يعد كما كان.
وحين ذهبنا لزيارتها وتكريمها كان يبدو عليها الضعف والوهن ورغم ذلك رحبت بنا ترحيباً شديداً وشكرتنا وهى تشعر بالامتنان لأننا تذكرناها فى عيد ميلادها.
اعتذرت الفنانة الكبيرة عن التقاط صور لها أو تصويرها بالفيديو، واكتفت بأن تظهر بصوتها فقط، مفضلة أن تحتفظ بصورتها التى يعرفها الجمهور بها قبل أن يترك الزمن أثاره على صحتها وصورتها الجديدة، احتفلنا معها بعيد ميلادها، وسمحت لنا أن نلتقط ما نشاء من صور لبيتها ومقتنياتها، وما حصلت عليه من دروع وتكريمات وشهادات.
وقال أم البطل: "أنا الحمد لله كويسة وبقول للجمهور لكل وقت أدان وأنا بعدت علشان كبرت، وكل واحد له وقت، وبشكركم على الاحتفال بيا "، ووجهت كلمة لأمهات الأبطال والشهداء، قائلة: "لازم نصبر ربنا يصبركم لأن الأم هى رمز التضحية فى كل وقت".
وأشارت الفنانة الكبيرة إلى أنها تفخر بكونها أم بطل وشهيد وتدعو بالصبر لأمهات الشهداء، مؤكدة أنهن يقدمن أعظم تضحية للوطن، وأنها أصرت على تقديم أغنية أم البطل كهدية لكل أمهات الأبطال وهى أول أغنية تعبر عن مشاعر أم البطل.
تركنا الفنانة الكبيرة ولكننا ظللنا على تواصل للإطمنئان عليها بين حين وآخر، حتى لم تعد قادرة على الرد أو التواصل، فمع تقدمها فى السن وزيادة عزلتها وسوء حالتها الصحية لم تعد شريفة فاضل تستقبل أحداً سوى شقيقتها مرفت وأبنائها وأحفادها، ضعفت حركتها ولم تعد تفارق غرفتها، تستيقظ فى أوقات قليلة لتتناول القليل من الطعام والدواء وتعود لنومها من جديد، وظلت لفترة على هذا الحال بعد أن زهدت الدنيا وكأنها كانت تقف على حافة جسر بين الحياة والموت، حتى عبرت هذا الجسر وانتقلت لتستريح من عناء الرحلة وتلتقى بأحباب اشتاقت لرؤيتهم.. رحم الله سلطانة الطرب وأم البطل التى ستبقى حاضرة دائمًا فى وجداننا رغم الغياب والرحيل.