أفصحت صورة الفنان عبدالفتاح القصرى بجريدة الجمهورية، يوم 24 يناير 1964، عن وجع النهايات لهذا الممثل الكوميدى النادر فى تاريخ السينما المصرية.
كان «القصرى»- حسب الصورة- يمسك بأسياخ حديد شباك حجرته بشقة بالدور الأرضى فى حارة بشارع النزهة المتفرع من شارع السكاكينى بالقاهرة، وكتب الصحفى محمد دوارة تعليقا مؤلما على الصورة، قال فيه: «بدأ الضوء والحياة يفارقان عينى القصرى تدريجيا.. خشيت مطلقته أن يشكوها لأحد، فأغلقت دونه الباب، وأغلقت عيونه الذابلة العالم كله فى وجهه.. القصرى يصرخ كل يوم من وراء النافذة، يطلب من السكان سيجارة وصغار الصبية يضحكون منه اليوم، بينما آباؤهم الذين ضحكوا منه الأمس يبكون، والزوجة السابقة وزوجها الجديد يخرجان كل يوم للتنزه بأموال القصرى، ولا ينسى أحدهما أن يغلق الباب وراء المأساة التى اسمها القصرى».
كانت الصورة بعد 57 عاما من مولده بحى الجمالية بالقاهرة عام 1905 لأب جواهرجى، وجاءت بعد 31 عاما من دور «المعلم بحبح» أول أدواره السينمائية فى الفيلم الذى حمل نفس الاسم، وأخرجه شكرى ماضى وفوزى الجزايرلى عام 1935، حسب «محمود قاسم» فى موسوعته «أبطال الضحك فى تاريخ السينما المصرية»، كان «المعلم بحبح»، امتدادا لأدواره المسرحية بفضل أستاذه نجيب الريحانى، فحسب الناقد والمؤرخ الفنى حسن إمام عمر فى مجلة «الكواكب- 23 مارس 1993»: «أسند الريحانى إليه بعض الأدوار الصغيرة، وأثبت تفوقه فى أدائها، حتى كان التحول الكبير الذى أجراه الريحانى فى المسرحيات التى يقدمها وتهتم بمشاكل المجتمع المعاصرة، فأسند إليه دورا مهما فى المسرحية الأولى فى المرحلة الجديدة، اسمها «الجنيه المصرى»، حيث قام بدور معلم بلدى من تجار السمك، أداه بنجاح كبير يلفت إليه جميع الأنظار».
نجح القصرى فى تجسيد شخصية المعلم ابن البلد بامتياز على شاشة السينما، ويعيد إمام عمر السبب إلى «مخالطته لكثير من أبناء البلد فى سهراتهم، وبلغ من تأثره بأولاد البلد والمعلمين الذى كان يعاشرهم أن خلع البدلة، وارتدى الجلباب لفترة، لكن الريحانى منعه من لبسها خارج المسرح وخارج الاستديو»، وينقل حسين عثمان فى «الكواكب- 5 مايو 1970» قول القصرى له، إنه فى 1951 عرض أحمد بدرخان عليه دور على مبارك فى فيلم «مصطفى كامل»، فإذا به يضحك عاليا ويقول لبدرخان: «أنا لا أصلح إلا لأدوار أولاد البلد، صاحب قهوة، جزار، حانوتى، ولكن دور واحد باشا لا أستطيع تمثيله.. عمرى ما جلست مع أحد الباشوات».
هكذا مضى «القصرى» المتفرد شكلا، ونطقا، وجسمانا، وعبر الكاتب والشاعر صالح جودت عن هذه الخلطة فى «الكواكب 3 نوفمبر 1953» قائلا: «إن المرء قد يتخيل القصرى قصابا، أو مقاولا بلديا، أو صاحب مقهى فى حى وطنى، أو حانوتى، كما ظهر فى إحدى بدائع مسرح الريحانى، قد تتخيله أى شىء إلا أن يكون بائع مجوهرات، لكن مع ذلك فإن أباه كان صائغا، ونشأ عبدالفتاح على صناعة أبيه، وتعلم اللغة الفرنسية، وعشق المسرح، لكن كان عليه أن يكون ابن البلد الظريف».
ظل «القصرى» على ظرفه الاستثنائى، حتى جاءت لحظة وداعه لبهجة الحياة حين صرخ أمام إسماعيل ياسين على خشبة المسرح فى صيف 1962 قائلا: «مش شايف»، فظن الجمهور أن الصرخة جزء من النص فزاد ضحكا وتصفيقا، لكن «ياسين» فهم المقصد فأمسك بيديه ودخل به الكواليس، لينفجر فى البكاء: «مش شايف.. نظرى راح يا ناس»، وفى المستشفى تبين أنه فقد بصره لارتفاع نسبة السكر»، وبعد خروجه توالت فصول محنته الإنسانية، وأقساها ما ذكرته عائشة صالح فى «الكواكب-17 مارس 1964»: «أجبرته زوجته الشابة على تطليقها، وتزوجت من صبى البقال الذى كان يرعاه لمدة 15 سنة، ليس هذا فحسب، بل أجبرته على أن يوقع شاهدا على هذا الزواج، وأقاما الزوجان فى الشقة معه، فكانت النتيجة أن فقد عقله وأصيب بالهذيان».
اهتز قلب الفنانة مارى منيب لنشر «صورة الجمهورية»، فزارته هى والفنانة نجوى سالم وبصحبتهما الصحفى محمد دوارة، وكتب فى «الجمهورية- 31 يناير 1964»، مشيرا إلى أن إحدى صديقات مطلقة القصرى قالت إنه غير موجود فى الشقة، ولم تسمح لهم بالدخول إلا بعد معاناة، ثم ظهرت المطلقة وأخفته مدعية أنها تعامله أحسن معاملة، لكن مارى منيب صممت على أن تراه، وبعد ربع الساعة عادت به المطلقة واكتشف الثلاثة أنه فقد جزءا كبيرا من ذاكرته، وأسرعت مارى بإلحاقه بمستشفى الدمرداش، ثم قصر العينى، وفيه قرر الدكتور زكى سويدان أنه أصيب بفقدان الذاكرة والهذيان.
يذكر حسين عثمان أن الفنانة هند رستم والفنانة نجوى سالم تطوعا بالإشراف على تغطية نفقات علاجه فى المستشفى من بعض تبرعات الفنانين، بعد أن عجز هو عن أن يصنع لنفسه شيئا، حتى توفى بمستشفى المنيرة يوم 8 مارس «مثل هذا اليوم» عام 1964.