عرف الضابط الفرنسى المخضرم «جوزيف سيف» أن شاه الفرس يبحث عن ضباط متمرسين لتنظيم جيشه وفق النظم الأوروبية الحديثة، فطلب من صديقه الوفى الكونت دى سيغور، توصية لدى الشاه، فرد على طلبه ولكن برسالة توصية إلى محمد على باشا، فلم يتردد «سيف» وغادر أوروبا إلى مصر فى يناير سنة 1820، حسبما يذكر «جيلبرت سيونيه» فى كتابه «الفرعون الأخير.. محمد على» ترجمة، عبدالسلام المودنى.
يبتسم القدر فى وجه «سيف»، حيث سينجح فى الحصول على مقابلة لمحمد على، ويذكر «سينويه» أن هذه المقابلة لم تكن فقط لرسائل «دى سيغور» الملحة، وإنما أيضا لتوصية من المهندس «بوسكال كوسط» الذى تعرف عليه «سيف» فى الإسكندرية، ويكتب «كوسط» فى مذكراته: «بينما كنت فى معسكر كتيبة بومبي، زارنى فرنسى يدعى السيد سيف، فأعرب لى عن رغبته فى الالتحاق بخدمة محمد على باشا، فسارعت إلى تقديمه إلى سموه الذى أحسن استقباله».
سيصبح «جوزف سيف» صاحب مكانة خاصة عند محمد على ليس من وقت مجيئه إلى مصر، وقرار الباشا بإرساله إلى السودان للبحث عن الفحم الحجرى فى أنحائه، حسبما يذكر الأمير عمر طوسون فى كتابه «الجيش المصرى البرى والبحرى»، فهى مهمة فشل فيها، وإنما سيحصل على مكانته حين يعهد محمد على إليه بتكوين الجيش النظامى بمصر وإرساله إلى أسوان لتنفيذ هذه المهمة عام 1820، ولم تأت هذه المهمة من فراغ، وإنما كان ماضيه العسكرى يؤهله وفقا لتأكيد الأمير عمر طوسون.
يذكر «طوسون»، أن «سيف» ولد فى 17 مايو سنة 1788 على سفينة والده أحد رجال الملاحة وأصحاب السفن ومن مدينة ليون بفرنسا، وترعرع فى احدى السفن الحربية فى طولون وهو فى الثانية عشرة من عمره، ثم انتظم فى سلك المدفعية البحرية، واشترك فى الحرب بين الأساطيل المتحدة لدولتى فرنسا واسبانيا، والأسطول الإنجليزى فى موقعة «الطرف الأغر»، وفى 1807 التحق بالخدمة فى الجيش الفرنسى الذى كان فى إيطاليا، ثم وقع أسيرا فى ايدى النمساويين، ولما خرج من الأسر انضم إلى جيش نابليون مرة أخرى، واشترك فى حربه ضد روسيا.
استقال «سيف» من الجيش عام 1916 واشتغل بالتجارة، ولم يفلح فيها، ويخلص إلى أن موهبته الأصيلة فى الجندية، ويأتى إلى مصر، ويذكر «طوسون»: «عهد إليه محمد على بتكوين الجيش النظامى بمصر وأرسله إلى أسوان، وبعث إليه بمماليكه ومماليك كبار رجال حكومته ليعلمهم بها، فقام بهذه المهمة خير قيام، وتغلب على العقبات فتخرج هؤلاء المماليك على يديه ضباطا على مدى ثلاث سنوات، وجمع له محمد على من السودانيين ثلاثين ألفا فكون منهم ستة ألايات ودربهم على النظام الجديد بمعاونة ضباط المماليك الذين تخرجوا على يديه، ثم اعتنق الإسلام واشتهر باسم «سليمان بك الفرنساوى» وأرسله محمد على مع ابنه إبراهيم باشا فى حرب المورة، فأظهر بسالة وإخلاصا جعله أرفع مكانة فى نفس إبراهيم».
يؤكد «طوسون» أن «حرب المورة» انقضت بتدخل الدول الأوروبية وأساطيلها البحرية التى باغتت الأساطيل المصرية والتركية وأحرقتها، وعلى أثر ذلك رجعت الجنود المصرية، ورجع معها «سليمان بك الفرنساوى» ومعه فتاة يونانية اختارها من السبايا اليونانيات اللائى وقعن فى قبضة الجيش المصرى ثم اقترن بها ورزق منها بأولاده وهم، إسكندر بك الذى لم يعمر طويلا، وبنتان اقترن بإحداهما شريف بك الذى أصبح فيما بعد «المشير شريف باشا الفرنساوى» ورزق منها بذريته التى كانت من بينهم حرم عبدالرحيم باشا صبرى، والدة الملكة نازلى زوجة الملك فؤاد الثانية وأم الملك فاروق، واقترنت الأخرى بمراد حلمى بك الذى أصبح فيما بعد مراد حلمى باشا أحد الوزراء المصريين ورئيس المحكمة المختلطة.
يذكر «طوسون» أن «سليمان بك الفرنساوى» تفرغ لإعادة تنظيم الجيش المصرى من صميم المصريين بعد عودته من حرب المورة، ووثق به محمد على وإبراهيم باشا، فأمداه بمعاونتهما وركنا إليه فى هذه المهمة العظيمة، وكافأه محمد على بأن منحه رتبة اللواء، يضيف «طوسون» أنه فى سنة 1846 كان فى معية إبراهيم باشا فى زيارته لفرنسا، فشاهد الحفاوة التى أعدها لويس فيليب ملك فرنسا، وحضر مناورات الجيش الفرنسى الكبرى، وأنعم عليه الملك بوسام «جوقة الشرف» ثم انتهز هذه الفرصة وزار مدينة «ليون» مسقط رأسه، وزار فيها شقيقته وأقاربه وأصدقاءه الأقدمين ثم عاد إلى مصر، وقدم إلى محمد على تقريرا بمشاهداته وما استجد فى نظام الجندية الفرنسية.
بعد وفاة محمد على باشا وابنه إبراهيم، عهد عباس باشا إلى «سليمان باشا» بقيادة الجيش، وفعل سعيد باشا نفس الأمر حين أصبح واليا لمصر، واستمر فى منصبه حتى توفى، 11 مارس، مثل هذا اليوم، 1860.