تسابقت الصحف فى التنبؤ بحال حكومة سعد باشا زغلول أثناء افتتاح البرلمان يوم 15 مارس، مثل هذا اليوم، 1924.. يؤكد «أحمد شفيق باشا» فى «حوليات مصر السياسية 1924» أن شائعات ظهرت حول خطبة العرش، وقيل إن انجلترا أرادت الإطلاع على نصها، فعلق سعد: «لا الإنجليز طلبوا أن يطلعوا على خطبة العرش ولا هناك أزمة أو شبيها فى شىء يختص بخطبة العرش، والوزارة هى المسؤولة عن الخطبة عملا بالتقاليد الدستورية وستتلى على النواب، وتكون لهم الحرية فى إبداء رأيهم فيها».
تشكلت هذه الحكومة بتكليف من الملك فؤاد يوم 28 يناير 1924، وأطلق سعد عليها وصف «وزارة الشعب»، وتكونت من، سعد باشا رئيسا ووزيرا للداخلية، ومحمد سعيد باشا وزيرا للمعارف، ومحمد توفيق نسيم باشا وزيرا للمالية، وأحمد مظلوم باشا وزيرا للأوقاف، ومحمد فتح الله بركات باشا وزيرا للزراعة، ومصطفى النحاس بك وزيرا للمواصلات، ومحمد نجيب الغرابلى أفندى وزيرا للحقانية، وحسن حسيب باشا وزيرا للحربية والبحرية، ومرقص حنا بك وزيرا للأشغال العمومية، وواصف بطرس غالى أفندى وزيرا للخارجية.
يكشف الكاتب الصحفى مصطفى أمين، فى كتابه «من واحد لعشرة» أن هذه الحكومة واجهت ثلاث أزمات يوم الافتتاح، الأولى خاصة بزوجات الوزراء، حيث اشترطت الملكة نازلى زوجة الملك فؤاد فى دعوتها بأن يرتدين «اليشمك».. يذكر «أمين» أن أغلبهن فلاحات، أو من بنات الشعب اللاتى لا يعرفن «اليشمك» المكتوب فى الدعوة.. يوضح أنه «عبارة عن قطعة قماش أبيض تلفه السيدة حول رأسها كالعمامة، ويسقط على وجهها فلا تظهر منه إلا العينان، ويثبت بدبابيس بطريقة تخفيها عن العيون.
يؤكد أمين: «أسقط فى يد زوجات الوزراء، وأرسلت «صفية زغلول» زوجة سعد، السيدة «هدية بركات» زوجة الدكتور بهى الدين بركات لتعليم الزوجات طريقة ارتدائه، لأن والدها كان فى وقت من الأوقات ناظر الخاصة الملكية، وكان شقيقها «عطا عفيفى بك» تشريفاتى السلطان، وهكذا اكتسبت خبرة ربط اليشمك».
يكشف «أمين»، أن زوجة فتح الله بركات باشا وزير الزراعة رفضت أن تتعلم ربطه، وقالت إنها فلاحة، وتريد أن تعيش وتموت فلاحة، ورفضت حضور الافتتاح، أما حرم نجيب الغرابلى باشا وزير الأوقاف فطلبت من «هدية» أن تربطه لها فى اليوم السابق للافتتاح، وبقيت ساهرة وهو على رأسها إلى أن جاء الموعد فذهبت به.
كانت الأزمة الثانية خاصة بالوزراء، ويلخصها «أمين» فى أن التقاليد كانت تقتضى أن يرتدوا «التشريفة الكبرى» وتتكون من بدلة سوداء موشاة بالقصب، تتدلى منها سيوف نحاسية، بالإضافة لوضع الأوسمة والنياشين الممنوحة من الملك، وكان الخياط الإيطالى «ديليه» هو المتخصص فى صنع هذه الملابس، وتولى تعليمهم كيفية ارتدائها، لكنهم نسوا، فارتدى وزير الوشاح بالمقلوب، وعلق آخر السيف إلى يساره بدلا من يمينه، ووضع ثالث الوسام تحت عنقه بدلا من صدره، وأنقذ الموقف الوزراء القدامى حيث اصطحبوا زملاءهم الجدد إلى غرفة جانبية وعدلوا لهم ملابسهم.
أما الأزمة الثالثة وهى الأعمق، فجرها الملك فؤاد، حيث لاحظ أن الوزراء محمد سعيد باشا، وتوفيق نسيم باشا وأحمد مظلوم باشا قبلوا يد جلالته، واكتفى باقى الوزراء الوفديين بالانحناء والمصافحة، فتجهم وجه الملك واعتقد أن سعد يقف وراء ذلك، فاستدعى «نسيم باشا» وقال له: «أنا سكت لأن سعد باشا لا يقبل يدى لأنه أكبر منى سنا، ولأنه يتصور أنه فوق البشر، لكننى لا أسكت على أن يرفض الوزراء الهلافيت تقبيل يدى، إن جميع رؤساء حكومات مصر ووزرائها كانوا يقبلون يدى منذ جلست على العرش، وهؤلاء الوزراء الذين أظهروا قلة الأدب كانوا أفندية وبكوات وجعلتهم باشوات، فهل هذا جزائى؟.
نقل «نسيم» غضب الملك إلى سعد، فرد: «لم أصدر للوزراء أمرا بعدم تقبيل يد الملك، ولو سألونى، لقلت لهم: عندما كنت وزيرا فى عهد الخديو عباس «الثانى» لم أقبل يده، وعندما كنت وكيلا للجمعية التشريعية فى عهد السلطان حسين كامل لم أقبل يده، وأنا لا أفرض الكرامة على أحد وهم أحرار فى أن يقبلوا يده، أما إذا كان يريد أن يشترى الوزراء بألقابهم فلا أمانع فى أن يجردهم من هذه الألقاب، ومستعد أن اقترح تقليدا دستوريا بأن يكون الوزراء بلا ألقاب ما داموا أعضاء فى البرلمان.. قل لجلالة الملك: «تقبيل الأيدى ليس دليل الإخلاص».