فى يناير 1931 عرف الشاعر والكاتب كامل الشناوى، الفنان محمد عبدالوهاب، وأمير الشعراء أحمد شوقى الذى أولى «عبدالوهاب» عناية خاصة، واعتبره ابنا له، وبالرغم من أن «شوقى» توفى يوم 14 أكتوبر 1932، أى بعد أقل من عامين من تعرف «الشناوى» عليه، إلا أن «الشناوى» كان شاهدا على الكثير من المواقف التى تكشف الحب الجارف الذى منحه أمير الشعراء للمطرب الناشئ وقتها، وكيف ساهم فى تكوينه الذى صعد به إلى قمة الغناء والموسيقى فى تاريخنا العربى.
يكشف «الشناوى» عن كل ذلك فى مذكراته المنشورة بمجلة «آخر ساعة» عام 1965، وفى حلقة بعنوان «خناقة بين شوقى والعقاد والمازنى حول عبدالوهاب» بتاريخ 17 مارس، مثل هذا اليوم، يقول، إنه فى يناير 1919 عرف محمد عبدالوهاب، كان شابا صغيرا يردد الناس اسمه بحماس وانفعال، فريق يرفعه إلى القمة، وفريق يلقى به فى الهاوية، ولم يحدث أن وضعه أحد فى مكان يتوسط القمة والهاوية.
يذكر «الشناوى» وضع عبدالوهاب على خريطة الغناء وقت ظهوره، قائلا: «إن أباءنا وأساتذتنا، وأصدقاءنا الأكبر منا سنا كانوا لا يعترفون إلا بمطرب واحد هو صالح عبدالحى، ويسخرون من ميوعة أغانى عبداللطيف البنا، ويهزأون ممن يتحدثون عن حامد مرسى، وكان هذا المطرب نجما متألقا فى المسارح الغنائية، وقد فتن الكثيرات بجماله وأناقته، وعندما ظهر عبدالوهاب سخر منه المعجبون بصالح عبدالحى، ولكنه استطاع أن يجعل طائفة كبيرة منهم تتحول من إعجابها بالمطرب القديم إلى إعجاب بالمطرب الجديد، وعرف كيف يأخذ من حامد مرسى كل جمهوره من المفتونات، فقد طغت رشاقة عبدالوهاب ووسامته على ما امتاز به الشيخ حامد مرسى من رشاقة ووسامة».
يضيف «الشناوى»: «كان معروفا أن الذى شق الطريق للموهبة الصوتية الناشئة، هو أمير الشعراء أحمد شوقى، وكان هذا سببا كافيا لإقناعنا بأن عبدالوهاب قيمة فنية أصيلة، فقد كنت أحب شوقى الشاعر العبقرى العظيم، كان شعره ينبض فى قلبى، وفى ذهنى، فمنحته ثقة ليس لها حدود، ما يستهويه يستهوينى وما يرفضه أرفضه، فى يناير 1931 عرفت شوقى، كان قرأ لى قصيدة منشورة بجريدة البلاغ الأسبوعى، وأبدى لصاحبها عبدالقادر حمزة إعجابه بالقصيدة، وسأل عن صاحبها، فأخبره حمزة بأنه لم يقرأ القصيدة ولا يعرف صاحبها، وكان الأستاذ الكبير إبراهيم المصرى هو الذى يتولى الإشراف على الملحق الأدبى الأسبوعى لجريدة البلاغ اليومية السياسية، فسأله عبدالقادر حمزة عنى، وأخبره أن شوقى يريد أن يرانى».
يصف «الشناوى» حالته حين أبلغه إبراهيم المصرى: «طرت من الفرح، وتشاورت مع أصدقائى فى الطريقة التى أقدم بها نفسى لشوقى، واتفقنا أن نزور الأستاذ زكى طليمات فى مسرح الأزبكية ظهرا لنحضر تجارب التمثيلية التى يتولى إخراجها، لعلنا نجد شوقى هناك، فقد كان مولعا بحضور التجارب فى المسارح، وخاصة تجارب تمثيلياته، فى مسرح الأزبكية وجدنا زكى يودع رجلا قصير القامة، يعلو رأسه طربوش أحمر غامق، وحول رقبته كوفية، وانسدل على قوامه معطف طويل واسع، وعيناه تترجرجان كالزئبق، كان هذا الرجل هو أحمد شوقى أمير الشعراء».
يذكر الشناوى، أن زكى طليمات قدمه وأصحابه إلى شوقى، يضيف: «لم يكد يسمع اسمى حتى ضحك وقال: «إن من يقرأ قصيدتك الأخيرة يتصورك شابا نحيلا دائبا من الحب والهيام،ما شاء الله، وزنك كم كيلو؟ قلت: 150 كيلو، قال: وكم سنك؟ قلت: «20 بلا مائة (مواليد 7 ديسمبر 1908)، ضحك شوقى، وأخذ يسألنى عما أحبهم من الشعراء، فذكرت قائمة طويلة بينها أحمد شوقى، فقال: هل تحفظ شيئا من شعرى، قلت: أحفظ كل شعرك»..وطلب من أن أنشد قصيدة «أبوالهول» ولما سمعها أبدى إعجابه بطريقة أدائى للشعر، ودعانى إلى تناول الغذاء معه فى داره «كرمة ابن هانئ» بالجيزة، وقبلت الدعوة شاكرا، واستأذنت من أصدقائى، وتركتهم هم والأستاذ زكى طليمات».
يواصل الشناوى: «ركبت مع شوقى سيارته، ووجدت سائق السيارة يتجه إلى العباسية، فسألت إلى أين نحن ذاهبون؟ فقال شوقى: سنمر على محمد فى العباسية لنأخذه معنا، قلت مستفسرا: تعنى محمد عبدالوهاب؟ فقال: نعم، هل تعرفه؟ قلت: أسمع عنه فقط، قال: هل يعجبك صوته؟ قلت: يعجبنى جدا، قال: أنت إذن صاحب ذوق سليم، ووصلنا إلى دار عبدالوهاب بالعباسية، وكان يسكن بيتا مستقلا يتكون من بدروم وسلاملك وطابق علوى، وخصص هذا الطابق لأسرته المكونة من والده ووالدته وأخوته، وشغل هو السلاملك الذى يحتوى على حمام وغرفة نوم، ومدخل فسيح، وقاعة لاستقبال الضيوف عريضة طويلة، وازدحمت فيها المقاعد والآرائك والأبسطة وأهل البيت من بيت عبدالوهاب، خرج عبد الوهاب من غرفة نومه ليستقبلنا، وكان يرتدى البيجامة وفوقها روب وحول عنقه كوفيه، وعلى رأسه النظارة السميكة، وقدمنى شوقى إليه باسم «الأديب مصطفى كامل الشناوى»، فهذا هو اسمى بالكامل.
ويواصل الشناوى، سرده لباقى الحكاية.