فرح أمير الشعراء أحمد شوقى بإشادة الكاتبين عباس محمود العقاد وإبراهيم المازنى بالمطرب الناشئ محمد عبدالوهاب، ومبعث فرحه أن الاثنين لم يرحبا بعبدالوهاب فى بدايته نكاية فى شوقى الذى كان يوليه رعاية خاصة، ثم تغيرت وجهة نظرهما بعد أن قام أحد الأصدقاء بدعوتهما إلى سهرة خاصة عنده غنى فيها عبدالوهاب، فكتب العقاد شعرا إعجابا بالمطرب الناشئ، كما كتب المازنى نثرا، وبالرغم من ذلك توجس «شوقى» من الاثنين فسلك مسلكا غريبا، حسبما يذكر الكاتب والشاعر كامل الشناوى فى فصول من مذكراته بمجلة «آخر ساعة»، ومنها فصل «خناقة بين شوقى والعقاد والمازنى حول محمد عبدالوهاب» المنشور فى عدد 17 مارس 1965.. «راجع، ذات يوم، 17 و18 مارس 2023».
يذكر «الشناوى»، أن شوقى اعتبر إشادة العقاد والمازنى بعبدالوهاب نصرا شخصيا له، لأن عبدالوهاب عاطفة فى قلبه، وفكرة فى رأسه، ونورا فى عينه، لكن بعض أصدقاء شوقى نجحوا فى إقناعه بأن إشادة العقاد والمازنى بعبدالوهاب ستجعله ينضم إليهما، وأن الشبل الصغير قد بنى له عشا فى قلب المازنى، وعشا آخر فى قلب العقاد، وإذا بشوقى يستعدى بعض الصحف على المازنى والعقاد، ويجعلها تهاجمهما فى موضوع عبدالوهاب بالذات.
يضيف «الشناوى»: «كتب حسين شفيق المصرى مقالا نقد فيه قصيدة العقاد التى يقول فيها «إيه عبدالوهاب: إنك شاد/ يطرب السمع، والحجى، والفؤادا»..علق «المصرى»: هل أراد العقاد أن يمدح عبدالوهاب أم أراد أن يذمه؟..إنه يقول: «قد سمعناك ليلة فعلمنا/ كيف يهوى المعذبون السهادا».. كيف يهوى المعذبون السهادا، إذن لم تكن ليلة طرب، بل كانت ليلة شقاء، إن عبدالوهاب لم يشج الشاعر، ولكن أشقاه، وسامه سوء العذاب، وكيف يتفق هذا الشقاء والعقاب مع وصف الشاعر للمغنى بأنه أطرب السمع والحجى والفؤاد».
يواصل الشناوى: «كتبت جريدة الكشكول كلمة تحت عنوان «هجاء فى مدح» قالت فيها: سأل إعرابى أحد المغنين: ما الغناء؟..فأراد المغنى أن يرى الأعرابى كيف يكون الغناء، فأخذ يتغنى بأبيات من الشعر ويهتز، ويتجمد وجهه، وتلعب عيناه، فقال له الأعرابى: والله يا أخى ما يفعل بنفسه هكذا عاقل، وقد صدق ولم نر من استملح هذه البشاعة من المغنين غير المازنى، فقد كتب فصلا عن المغنى النابغة محمد أفندى عبدالوهاب، قال فيه إنه إذا تناول العود وأصلحه، واستعد للضرب يرفع رأسه حتى يمس ظهر الكرسى ويرسل طرفه إلى الفضاء، وعقبت الكشكول قائلة: وتلك أوصاف مفتراة ظنها المازنى مما يحمد من المغنين، فوصف بها عبدالوهاب، وعبدالوهاب براء منها».. ثم أضافت الكشكول: «ولا نرى المازنى–أخزاه الله-وصف مغنيا، ولكنه وصف قردا، وخيل إليه أنه يمدح وهو يهجو، ولا شأن لنا به، فلينظر عبدالوهاب كيف جزاء من يطرب الحمقى والجهال.. أفلا يكافئونه بغير إلحاقه بالقرود».
يكشف «الشناوى»: «لما ظهرت الكشكول وفيها هذه الكلمات أخذ شوقى يبدى إعجابه بها متسائلا عن كاتبها من يكون، ويجيب على تساؤله قائلا: إنه ليس أديبا فقط، ولكنه أديب وموسيقى ويفهم فى علم النفس، وكان يقول ذلك موجها الكلام لعبدالوهاب»..يؤكد الشناوى: «عرفنا أن شوقى هو الذى أملى هذه الكلمات على أحد محررى الكشكول، ليبعد عبدالوهاب عن المازنى والعقاد، وقد نجح ذلك، فابتعد المازنى عن عبدالوهاب، واكتفى العقاد بنشر قصيدته عن مطرب الحجى والفؤاد فى جريدة البلاغ، ورفض أن يسجلها فى أى من دواوين شعره».
يصل الشناوى إلى الختام فى سرد هذه القصة، قصة علاقة أمير الشعراء أحمد شوقى بالمطرب الناشئ محمد عبدالوهاب، كما رآها هو، قائلا: «لم أكن فى تلك الأيام قد احترفت الصحافة، كنت هاويا فقط، أتردد على دور الصحف لأزور بعض أصدقائى من صغار المحررين والمصححين، واتمنى لو أصبحت مصححا، أو محررا أعيد كتابة أخبار الأقاليم، وقد حققت الأيام أمنيتى فيما بعد، ولكن أمنيتى المتواضعة لم تمنعنى من أمل جسور راودنى، وهو أن أكون صحفيا يستدرج الشخصيات البارزة إلى أن تدلى بتصريحات تثير انتباه الرأى العام، وكنت مولعا بمشاهدة لعبة كرة القدم، ولاحظت أن الجمهور يبلغ أقصى اهتزازاته عندما تهتز شبكة المرمى بالكرة، وأردت أن أجرب حظى فى إجراء حديث تهز أسئلته وإجاباته شبكة المرمى.. كانت الشخصيات التى أعرفها مغمورة إلا شوقى وعبدالوهاب، أما شوقى فلم أجرؤ على أن أجرب فيه هذه النزوة، فقد كان بالنسبة لى قمة لا يصل إليها واقعى ولاخيالى.
ودنوت من عبدالوهاب فى إحدى الجلسات التى كان يعقدها شوقى فى «كرمة ابن هانئ» وسألته : هل عندك ما يمنع من إجراء حديث مع أحد الصحفيين.. فقال: من هو هذا الصحفى؟..فقلت له : إنه صديق لى أبوه شيخ من رجال الدين، فقال: يعنى مثلى.. فأبى شيخ وأخى شيخ، وأنا أيضا شيخ.. قلت له مستغربا: أنت شيخ.. قال: طبعا.