تصاعدت حالة الثورة فى أسيوط أثناء ثورة الشعب المصرى، التى بدأت فى 9 مارس 1919، وبعد أسبوعين من اندلاعها، وتحديدا فى 23 مارس، مثل هذا اليوم، 1919، شهدت المدينة صفحة دامية مروعة، وفقا للكاتب والشاعر سعد عبدالرحمن فى مقاله «ثورة 1919 فى صعيد مصر بعيون يونانية»، المنشور فى مجلة «ذاكرة مصر- مكتبة الإسكندرية 2022»، والمؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919».
يذكر «الرافعى»، أن الجنود البريطانيون فى أسيوط اتخذوا مكانا دفاعيا فى المدينة اجتمعوا به ومعهم النزلاء الأجانب، وبلغ عددهم 146 شخصا، ووضع النساء والأطفال وعددهم نحو سبعين فى المدرسة الثانوية وبقوا فى أمان، وفى صباح 23 مارس هوجم المكان الدفاعى، وقبل أن تستطيع الإمدادات الوصول إلى المركز، الذى يحرس الطريق من قرية الوليدية إلى المدرسة، تمكن المهاجمون من اختراق النطاق وأخذوا يطلقون النار على الجنود البريطانيين، وصد الجنود هذا الهجوم بعد أن تكبد الثائرون خسارة جسيمة من القتلى والجرحى بلغوا عدة مئات، وفى خلال 23 و24 مارس عمل الجنود البريطانيون على تفريق جماعات الثوار وتفريق الرماة.
أما سعد عبدالرحمن، فينقل مشاهد ما حدث فى أسيوط يوم 23 مارس من رواية «عذراء أسيوط»، تأليف «كوستى ساجاراداس»، ترجمة عبدالسميع المصرى، و«ساجاراداس» أديب يونانى عاش سنوات طويلة من عمره فى أسيوط، وكان عميدا للجالية اليونانية بها، ويؤكد «عبدالرحمن» أن «عذراء أسيوط» رواية ترقى إلى أن تكون وثيقة تاريخية، لأن مؤلفها حرص على أن يسجل الأحداث فى أسيوط تسجيلا محايدا.
يذكر «ساجاراداس» أن يوم 23 مارس تحدد للإضراب العام، وأرسلت اللجان الفرعية فى أنحاء المديرية مندوبين عنها ليشتركوا فى مظاهرات أسيوط، وازداد العدد مع اقترابها من المدينة، وانضم إلى تلك المواكب بعض عربان الصحراء القريبين، ولم يكن القادمون عزلا من السلاح، فقد كان مع بعضهم بنادق ومع بعضهم مسدسات وحمل الآخرون عصيا غليظة، ووصلت الأنباء إلى الحكومة المحلية فخرجت بقضها وقضيضها، وتسلح رجال الشرطة بالبنادق والسونكى، وخرج معهم رجال بلوكات الخفر، وربضوا متربصين عند مداخل المدينة.
تدفقت الجموع إلى قلب المدينة، بعد أن وجدت قوة البوليس أنه لا يمكنها الوقوف فى وجهها، وانضم إلى جموع الثائرين القادمين من خارج المدينة الألوف من أبنائها، وارتفعت الأيدى بما تحمله من أسلحة متنوعة، كما دوت الأصوات تهتف بالشعار المقدس «يحيا الوطن »، واشتركت المرأة الأسيوطية لأول مرة فى المظاهرات بهتافات خجلى من خلف الحجاب، ومن قلب المدينة تحولت الجموع إلى مبنى المديرية على النيل ثم إلى البندر غرب المدينة وهم يهتفون «نموت فداء للوطن »، واستولى المتظاهرون على جميع الأسلحة الموجودة فى البندر، وفر أمامهم كثير من الضباط والعساكر، وانضم إلى المظاهرات مئات من نساء المدينة والأطفال الصغار الذين تعالت من حناجرهم الصغيرة الهتافات الخالدة «يحيا الوطن.. نموت فداء لمصر».
بعد ذلك تحركت جموع الثائرين نحو الترعة الإبراهيمية، لتعبر الخزان الصغير قاصدة المدرسة الثانوية الأميرية، حيث تعسكر الجنود الهنود من الهندوس والسيخ مع ضباطهم الإنجليز، وتغيرت الهتافات إلى «الموت للإنجليز..الفناء للغاصب »، فما كان من قوات الاحتلال إلا أن فتحت هويس الترعة لتقطع الطريق على المتظاهرين وتمنعهم من الوصول إلى شرق الترعة، فهاج ذلك المتظاهرين وازداد هياجهم، وانطلقت رصاصة طائشة فى الهواء قابلتها بسكون وصمت مريبين قوة الاحتلال، أطمع ذلك المتظاهرين، فعبر كثيرون منهم الترعة فوق بوابات الهويس العريضة، وحاول آخرون إغلاق البوابات لتتمكن الجموع الحاشدة وراءهم من العبور، وعندئذ وعلى نحو فجائى انطلقت مدافع ورشاشات القوة العسكرية الإنجليزية لتحصد أغلب العابرين، وتساقطت جثث القتلى وراح الجرحى يصارعون الموت فى مياه الترعة.
تراجع المتظاهرون من هول الصدمة، ولكنهم نظموا صفوفهم مرة أخرى، واندفع كثيرون منهم يعبرون الترعة فى زوارق، وأقبلت جموع من أهالى القرى التى تقع شرق النيل، وأخذت تتجمع فى منطقة «الوليدية» بجوار قناطر أسيوط، وتحصن الثوار خلف أسوار المدرسة الأمريكية والمحكمة ومستشفى الرمد وغيرها، وراحت جموع أخرى تعبر مجرى الترعة فى زوارق، واستمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين، برغم اختلال الميزان الفادح بين القوتين، وعندما اشتد حصار الثورة للقوة الإنجليزية، استنجدوا بالمركز فى القاهرة، فأرسلوا طائرة حربية لنجدتهم، راحت تلقى قنابل هنا وهناك على الأماكن التى يتجمع فيها الثوار، ثم تفتح مدافعها الرشاشة عليهم من ارتفاعات قريبة فتحصد أرواح العشرات منهم.
يؤكد «ساجاراداس» أن أسيوط عقب ذلك رزحت تحت سيف الإرهاب وسوط الأحكام العرفية، والاعتقالات لم تتوقف بين الأعيان ورجال الرأى، كما كانت الأحكام العسكرية تنفذ سريعا بعد محاكمات صورية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وأعدم كثير من الأبرياء لمجرد شبهة الاشتراك فى مظاهرة يوم الأحد المشهود، 23 مارس 1919.