كل عام وأنتم بخير، جاء شهر رمضان الذى يمثل للمصريين مناسبة مهمة، وفى مصر يبقى له طعم خاص جدا، وأقول للمصريين لأنه للمسلمين مناسبة للتراحم والعبادات الصيام والصلاة والتراويح، ولعموم المصريين يحمل الكثير من الحنين والذكريات المشتركة، فى الطعام والشراب الكنافة والقطايف والسهر.
رمضان هو أكثر شهور السنة التى ينطبق عليها «النوستالجيا»، الطقوس فى الأكل والشرب والاحتفال هناك أجيال تحمل الكثير من الذكريات، عن اللمة والعلاقات الاجتماعية والقطايف والفانوس، وكل جيل له حنينه الخاص، يتعلق بما تختزنه الذاكرة الجمعية من صور تسجلها وتستدعيها، وهى طقوس تطورت عبر الزمن، لكل منها طعمها ولونها وشكلها المحفور فى الذاكرة، تغيرت الطقوس قبل الكهرباء وأيام الإضاءة باللمبات «نمرة عشرة وخمسة» والكلوبات بالجاز كانت اختراعا.
ويختلف عصر «الكلوب» عن عصر الكهرباء، الذى غير الكثير من الخيالات، ومع الإذاعة تحمل الذاكرة أيام «ألف ليلة وليلة» للفنانة القديرة زوزو ماضى، ومعها الفنان الكبير عبدالرحيم الزرقانى، فقد كان الزمن مناسبا، لا كهرباء وهناك ظلام وكلوبات تنير الطريق، وحتى الكهرباء كانت فى بداياتها، والإذاعة تترك مساحة للخيال لاستكمال المسلسل أو الحدث، واللافت أن ألف ليلة وليلة، عندما تم تقديمها فى التليفزيون بالصوت والصورة والألوان، لم تأخذ نفس تأثيرها فى الإذاعة، فالصوت والمؤثرات لهما تأثير كبير.
عصر التليفزيون كان نقلة وثورة وبداية عصر الاتصالات والمعلومات، ثم يأتى عصر الإنترنت الذى يعيد صياغة كل شىء حتى الحنين، والحقيقة أن الذكريات لا تعنى رغبة فى العودة للعيش فى الماضى، حتى ولو كان البعض يقول هذا على سبيل الشعور بالضيق، فالماضى يبقى فى الذاكرة بعد تنقيته من المتاعب والعيوب، ومع هذا فإن رمضان فى مصر مختلف فيه الكثير من التفاصيل والذكريات، التى تختلف بالطبع، وبالتأكيد فإن الأجيال التى ولدت وعاشت فى عصر الاتصالات لهم خياراتهم وحياتهم وذكرياتهم، التى يختلط فيها الماضى مع الحاضر، أما الأجيال العابرة للأزمنة التى عاصرت الإذاعة ثم التليفزيون الأبيض والأسود ثم الملون والفضائيات وصولا إلى الإنترنت، فمنهم من يظل متمسكا بذكرياته وحنينه.
والذكريات قد تكون أكلا وشربا، تواشيح، حلقات ذكر، إذاعة، فوازير، ألف ليلة وليلة، ومسلسلات، وفى الحنين لا نتحدث عن الطقوس الدينية، لكن عن الذكريات المشتركة بين عموم المصريين، والقطايف والكنافة والفانوس، وهى ذكريات يتفق عليها المصريون جميعا، وتمثل علامات لشهر رمضان تختزنها الذاكرة، وتتبادل الأجيال الحنين حسب العمر، وحتى العبادات تأخذ شكلا مختلفا عنها فى باقى شهور العام.
أجدادنا ممن وولدوا فى العشرينيات يتذكرون الشيخ محمد رفعت، وكيف كانوا يسافرون ليستمعوا لقراءته أو حلقات الذكر والمنشدين، حيث كانت قراءة القرآن والاستماع إليه فنا قائما بذاته، يستمتع به المصريون عموما، بينما مواليد الأربعينيات يحنون إلى رمضان فى الميادين والساحات التى كانت تشهد حلقات الذكر والتراويح فى المساجد الكبرى، ومشاهير القراء، وفى الستينيات والسبعينيات كانت الإذاعة والتليفزيون قد أنهت عصر الاحتفال المباشر إلى المنازل.
فى الريف، كان رمضان شتاء، يعنى سهرا أقل، ومسحراتى يمثل مهمة أساسية، يدور بطبلته على البيوت ليوقظ النائمين، وحتى فى الصيف كان السهر بحدود، وظل المسحراتى مجرد رمز فى هذا العصر، بعد أن فقدت المهنة أهميتها، وبقيت نوعا من الحنين، مثل الفانوس الذى يمزج الصفيح بالزجاج، وتطور ليحل مكانه هجين بالبطارية، قبل أن يعود الفانوس الكلاسيكى من جديد بأشكال قديمة وإمكانيات حديثة، جنبا إلى جنب مع الحديث، لكنه يظل رمزا عابرا للأجيال، وقابلا لخلط الأفكار، وفى كل الأحوال يبقى رمضان عند المصريين مثل الكثير من المناسبات شاهدا على تفاعل عصور تحمل بصمات المصريين، حيث «وحوى يا وحوى إياحة» تحمل كلمة مصرية قديمة، والطقوس نفسها ذات بصمات مصرية شاهدة على تاريخ ممتد عابر للعصور.