خرج الزعيم محمد فريد، رئيس الحزب الوطنى من منزله بحلمية الزيتون بالقاهرة صباح الاثنين، 25 مارس مثل هذا اليوم، 1912، متوجها إلى منزل الدكتور صادق رمضان، أحد قيادات الحزب الوطنى، قبل توجهه إلى النيابة التى أبلغته بالمثول أمامها للتحقيق معه، حسبما يذكر فى مذكراته «راجع، ذات يوم، 24 مارس 2023.
أخبر «فريد» الدكتور صادق عزمه على السفر، فوافق، ويقول: «اتفقنا على الاجتماع بمنزل إسماعيل بك لبيب بالحلمية الجديدة بعد الاستجواب، ثم نزلت إلى العاصمة فوجدت محمود بك فهمى بانتظارى بمحطة كوبرى الليمون، أو بمحطة القبة لا أتذكر جيدا، ووجدت ضباط بوليس طليان «إيطاليين» بملابس ملكية يراقبون تحركاتى، مع أنى عارفهم شخصيا».
قصد «فريد» النيابة ومعه محمود بك فهمى، وكان على بك ماهر هو المكلف باستجوابه، ويؤكد فريد فى مذكراته: «كان ماهر متأففا من هذه المأمورية، ومن ظلم الحكومة واضطهادها إلى غير ذلك»، ويشير إلى حضور محامين إلى جانبه وهم أحمد بك لطفى، وعبدالعزيز بك فهمى باشا، وأحمد بك عبداللطيف.
استدعت النيابة فريد، لخطبته أمام حشد كبير يوم 22 مارس 1912، ويذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «محمد فريد - رمز الإخلاص والوطنية»، لما سألته النيابة عما جاء فى هذه الخطبة، أجاب: «إن معظم عبارات الخطبة تدل على أنها من قبيل انتقاد أعمال الحكومة، ولفت نظرها إلى ما يجب عمله، وهو أمر تنادى به يوميا جميع الصحف التى نشر بعضها خطبتى حرفيا كالعلم واللواء، ونشر بعضها فقرات منها مع التعليق عليها بما يفيد الاستحسان أو الاستهجان، طبقا لخطة كل واحدة منها، وهو أيضا من قبيل مايحصل من انتقاد أعمال الحكومة فى مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وهو مجرد انتقاد واجب على كل مصرى يعرف الواجب عليه».
يؤكد فريد، أنه بعد الظهر بنصف الساعة، أذن له على بك ماهر بالانصراف، ويذكر: «انصرفت مع محمود بك فهمى إلى منزل إسماعيل لبيب، وهناك قصصت على الإخوان «اللجنة الإدارية المكلفة بإدارة الحزب الوطنى» ما دار فى التحقيق، فتقرر سفرى بالإجماع خارج القطر، وبعد الغذاء ذهبت إلى نادى الحزب الوطنى، وذهب إسماعيل بك لبيب إلى محل «توماس كوك» للاستعلام عن السفن المسافرة إلى الخارج، فوجدنا الوابور الروسى «الملكة» مسافرا إلى الآستانة فى اليوم التالى، يوم الثلاثاء فقررنا السفر فيه».
يشرح «فريد» خطة سفره وكانت حسب قوله: «يقطع إسماعيل لبيب تذكرة لنفسه للسفر إلى الآستانة، وأنا أسافر من مصر يوم الثلاثاء بإكسبريس الصباح الساعة السابعة صباحا كأنى أسافر إلى الإسكندرية للمرافعة فى قضية بمحكمة الاستئناف المختلطة ثم أرافقه إلى الوابور، فإن ضبطت أو تعرض لى البوليس أقول بأنى مسافر لوداعه، وأنى سأكون بمفردى وبدون شنطة ولا ملابس، بل ولا تذكرة سفر، فلا يمكن لأحد أن يظن بأنى مسافر».
يكشف «فريد» أنه ذهب مع إسماعيل لبيب بعربة إلى الجزيرة للنزهة، ويضيف: «عدنا منها إلى نادى الحزب الوطنى، وأخذت بعض أوراقى من مكتبى، وأنا فى النادى حضر أحمد بك لطفى المحامى، ونصحنى بالسفر لأن الحكومة تنوى القبض على فى الصباح «26 مارس»، وأنها طلبت ذلك من على بك ماهر فامتنع ريثما يطالع الأوراق، وأنه يخشى أن تؤخذ الأوراق وتسلم لغيره من ضعاف العزيمة فيأمر بالقبض، فأسررت له بالأمر، وبأنى مسافر غدا».
نزل فريد من الحزب الوطنى قاصدا منزله فى الساعة الثامنة مساء، ويكشف عن طبيعة اللحظة الدرامية التى أخبر فيها زوجته بما يعتزم بأن يفعل، قائلا: «أخبرتها بالأمر سرا، وطلبت منها ألا تخبر الأولاد ولا أحدا من العائلة، وأفهمتها ضرورة سفرى، وقلت لها بما أن الجرائد ستأتى فى الصباح وبها تفصيلات استجوابى، تحجزها حتى لا يطلع عليها الأولاد»، يؤكد: «بما أنها سيدة عاقلة وفاهمة خطر مركزى، فلبت القضاء بالرضا، وشجعتنى على السفر، وتحمل مشاق النفى».
يذكر الرافعى، أن الزوجة هى السيدة عائشة هانم كريمة السيد إسماعيل حافظ وحفيدة السيد محمد شلبى العباسى سليل الخلفاء العباسيين، وتزوجت فريد فى يوليو 1888، وكانت له خير مثال للزوجة الصالحة، وظلت بعد وفاته باقية على عهده حتى توفيت فى يناير 1933، أما الأولاد فهم عبدالخالق فريد، القاضى بالمحاكم فيما بعد، وأربع بنات هن «فريدة، ولطيفة، وفائقة، وحميدة».
غادر «فريد» مصر سرا يوم 26 مارس 1912 ووصل إلى الآستانة بعد خمسة أيام (31 مارس)، وعاش بقية عمره متنقلا فى منفاه الاختيارى بأوروبا حتى توفى فقيرا وحيدا فى برلين يوم 15 نوفمبر 1919 بعد أن أنفق كل ثروته على القضية الوطنية، ولم تجد أسرته مالا لإعادة جثمانه، فتكفل التاجر بالزقازيق الحاج خليل عفيفى بالمهمة وسافر إلى ألمانيا ليعود بالجثمان على نفقته الخاصة يوم 8 يونيو 1920.