على مدار عقود كان شهر رمضان مناسبة لإنتاج وعرض المسلسلات فى الإذاعة ثم التليفزيون، كانت الفرجة للجمهور والنقد للنقاد، لكن مؤخرا أصبحت المواقع والحسابات الشخصية مكانا لنشر بوستات حول الآراء فيما يعرض من أعمال، ولدينا عشرات من الأعمال الدرامية والتى تعالج موضوعات معاصرة اجتماعية أو كوميدية، بخلفيات تاريخية، عاشت وشاهدها الناس وتناقشوا حولها من دون هذا الاستقطاب والتهوين والتهويل.
وفى السابق كان النقد يقتصر على عدد من النقاد وانتقل إلى الفضائيات أو البرامج لكن مع مواقع التواصل هناك نقاش يبدأ ولا ينتهى، بعضه آراء عادية وبعضه معروف مسبقا لأن أصحابه لهم آراؤهم أو جمهورهم الذين يخاطبونهم ويقدمون آراء سابقة التجهيز، بجانب رغبة لدى كثيرين فى أن يبدون عارفين متابعين ينقلون الآراء من غيرهم أو يرددون ما قرأوه لدى آخرين كأننا أمام رأى واحد منشور فى مائة حساب وهؤلاء إما أنهم تابعون أو يقومون بدور فى نشر ما يتلقونه كنوع من الوظيفة.
مع التأكيد على حق كل شخص أن يعلن رأيه بوضوح ومنطق تقييمه لهذا العمل أو ذاك، أو حتى إبداء إعجاب أو رفض من دون مبررات وبناء على أحكام شخصية.
بالطبع فإن الدراما تخضع لأمزجة وآراء المشاهدين، والإعجاب أو عدم الإعجاب حق للمشاهد أولا، وجزء من دور الناقد الطبيعى الذى يسعى لفهم العمل أو تفكيك نقاط قوته وضعفه، لكن هذا الأمر يتراجع أمام الهجوم والحملات والضجة المفتعلة، التى يحاول أصحابها أن يظهروا كأشخاص طبيعيين، ليخفوا كونهم يقومون بوظيفة.
وأضرب هنا مثلا بالجدل الذى يدور حول عملين كلاهما يعالج موضوعات تاريخية، وهو مسلسل «رسالة الإمام» عن الإمام الشافعى، مؤسس المذهب الشافعى وأصول الفقه، والثانى هو «سره الباتع» المأخوذ عن قصة بالاسم نفسه للأديب الراحل يوسف إدريس.
مسلسل الإمام الشافعى هو دراما وليس عملا تاريخيا، فالتاريخ ينتشر فى الكتب، أو الوثائقيات التى تكون لها مراجع، لكن الدراما تخضع لرؤية كتابها ومخرجيها، ولم يخل عمل يعالج سيرة ذاتية أو حدثا تاريخيا من جدل، رفضا وقبولا أو ملاحظات حول دقة التفاصيل والأحداث والشخصيات، وبالتالى فإن التعامل مع رسالة الإمام الشافعى، يفترض أن ينطلق من زاوية الدراما، وهو أمر يستقبله المشاهد العادى، بعيدا عن الجدل المنتشر والذى يغرق فى التفاصيل والملاسنات من قبل بعض من يتجاهلون كونه دراما إلى من يعتبرونه تاريخا، ناهيك عما يتعرض له العمل من هجوم على الأفكار التى يقدمها، والتى تتحدث عن اعتدال أو حوار أو تنوع، بينما تيارات وأشخاص يتكسبون من تسييد رؤية للعقيدة تقوم على التكفير والتعصب والطائفية.
ومن هنا فإن عمل مثل الشافعى، يلقى إقبالا على المشاهدة، ثم إن حجم الجدل حوله، يعنى أن نسبة المشاهدة عالية لدرجة أن البعض يفتش عن أدق التفاصيل فيه.
ونفس الأمر بزاوية أخرى يمكن تطبيقه على مسلسل «سره الباتع»، والذى هو رؤية عن حدث معاصر، مع خلفية تاريخية، واللافت أن الجدل المضاد للعمل انطلق من منطقة التاريخ، متجاهلا كونه عملا معاصرا، وليس تاريخيا، والموقف منه إما أنه مبنى على رأى خاص فى المخرج أو العمل، وهى صفة تلام من البعض، انطلاقا من قوالب جامدة.
ومع التأكيد على حق كل مشاهد فى إبداء رأيه، لا يمكن استبعاد تأثيرات عالم التواصل والتهوين والتهويل فى التعامل مع هذه الاتجاهات، حيث إن انتشار أدوات التواصل يفتح الباب أمام كثيرين لإبداء رأيهم فى كل الأمور بثقة وثبات، يبدأ واحد أو أفراد خيطا فيتبعهم كثيرون من دون تساؤل، وينسخون ويلصقون فتسود حالات من الآراء عالية الصوت، وهناك احصائيات من سنوات تشير إلى ثلاثة أرباع المستخدمين يتبعون الربع أو ربما أقل، ضمن نظرية التابع والمتبوع.
ظاهرة التابع والمتبوع تنتشر فى عالم التواصل بشكل كبير، لدرجة أن بعض الدراسات والاستطلاعات تصل إلى أن بين 5-15 % على أقصى تقدير، يقودون مواقع التواصل الاجتماعى ويطرحون أفكارا جديدة، والباقون يمشون وراءه، ويعجبون به.
وحتى من بين الخمسة وثمانين بالمائة، لا يوجد أكثر من 20% فقط يتخذون مواقف بناء على قراءة الموضوع، والباقى يحكم من العنوان، ويسير خلف الخمسة فى المائة.
هذه نتائج استطلاعات رأى وأبحاث تناقش كيفية تشكيل الوعى الافتراضى، وهو ما عالجته فى أحد فصول كتابى «السيبرانى» وأشرت إلى دراسات مهمة ترى أن التحكم فى الرأى لم يعد فقط من أدوات الإعلام التقليدية، وبعض المنشغلين بنظريات الإعلام هم أنفسهم يستهلكون ويرددون التقارير والعناوين، ويقعون ضحايا لحملات منظمة، تديرها مجموعات موجهة، وأن اللجان ظاهرة ترتبط بالعالم الافتراضى، لتسويق فكرة أو بوست أو شائعة أو حتى منتج.
وطالما نتحدث عن عالم التواصل، فالمستخدم يتعرض لبث مكثف، يشكل آراء أو علامات، وهو أمر لا يبتعد كثيرا عما نحن فيه من حالة سيولة، يتداخل فيها التربص، بالرأى العابر، والتابع بالمتبوع.