- انضمامه إلى «الفرقة القومية للفنون الشعبية» فى الستينيات كان «وش السعد» عليه وفاتحة خير للانطلاق إلى العالمية
- أصبح حديث الصحف والمجلات الفرنسية.. ورؤساء دول كانوا يطلبون الاستماع لأغانيه فى الحفلات الخاصة لهم أثناء زيارتهم لمصر
فى الصعيد فى جنوب مصر تراث غنائى متفرد وأصيل، يتمثل فى السيرة الهلالية «سيرة بنى هلال»، وامتدت أحداثها من نجد إلى تونس مرورا بالصعيد، ورغم مرور قرون على وقائع هذه السيرة، فإن الذاكرة الشعبية لأهل الصعيد أصرّت على إحيائها والتغنى بها.
أبرز من أدى السيرة وأكسبها مكانتها هو الشاعر الراحل جابر أبو حسين.. سجل السيرة بصوته فى نحو تسعين حلقة إذاعية، برفقة الشاعر عبدالرحمن الأبنودى.
بطولات ومغامرات وسيرة شعبية شديدة الثراء، كان لعبدالرحمن الأبنودى الفضل فى حمايتها من الضياع، عندما سافر فى بلاد الله يجمع فصولها من أفواه منشديها، ويسجلها كاملة سنوات طويلة من التعب والسفر والتدوين، جعلت عبدالرحمن الأبنودى فى مصاف الأدباء والشعراء الأوائل فى تاريخ الإنسانية، فالسيرة الهلالية.. ثروة قومية أنقذها الأبنودى من الضياع.
فى الصعيد نوع آخر من الغناء، أقل انتشارا من السيرة، هو المديح، والمقصود به مدح النبى ويسمى مؤدّيه «المداح»، يغنى قصائد عربية موزونة ومقفاة، بعضها من التراث مثل نهج البردة للإمام البوصيرى، وأبرز المداحين الشيخ أحمد التونى، والشيخ زين محمود، والشيخ ياسين التهامى الذى أنشد قصائد صوفية للإمام ابن الفارض والحلاج.
الأقصر يا بلدنا
فيكى توت عنخ آمون
أرض بونا وجدودنا
اسمك لن يهون
وسط تدفق هذا التراث الثرى من الغناء فى الصعيد يولد الريس عبدالمتعال قناوى أو الريس متقال، الصبى الأمى الذى نشأ فى محافظة الأقصر لم يكن يتخيل يوما أنه سيكون حامل لواء الأغنية التراثية الصعيدية واستمرار الأغانى الفلكلورية ويطوف العديد من دول العالم ويصبح حديث الصحافة العالمية بسبب أغانيه التى يؤديها وهو يمسك بالربابة ومرتديا جلبابه الصعيدى المألوف وبشارب يميزه عن أى من أصحابه ورفقائه وتغنى بحبه لبلدته «الأقصر يا بلدنا.. فيكى توت عنخ آمون.. أرض بونا وجدودنا.. اسمك لن يهون».
ولد متقال أو «الريس متقال» عام 1929، تعلم العزف والغناء على الربابة من والده وهو فى عمر التاسعة، وعلمه أبوه العزف على الربابة التى رأها فى أحد المحال فألح على والده لشرائها لتبدأ مسيرة فنان أبدع بفنه بقدر ما بقى محتفظا بالبساطة والعفوية. وبدأ يشارك فى إحياء الأفراح التى تخص الأقارب والجيران وقام بالانضمام لفرقة والده الغنائية بشكل أساسى لعدة سنوات، لكن سرعان ما استقل بذاته بتشكيل فرقة خاصة به وهو فى عمر الثالثة عشر.
كان متقال، يؤلف أغانيه ويلحنها بنفسه على الرغم من أنه لا يجيد القراءة والكتاب - كما صرح بذلك فى إحدى المقابلات الإذاعية - ويقال عن الريس متقال إنه كان خبيرا فى شؤون الربابة والموال، وكون فرقة من أقربائه، وفى أحد الأيام تصادف أن التقى بمجموعة من المتخصصين بالفنون الشعبية، ووجهوا الدعوة له للحضور إلى القاهرة، وهناك التحق بالفرقة القومية للفنون الشعبية وكان ذلك عام 1965، ثم التحق بالفرقة الثقافية الجماهيرية بطلب من الكاتب والمؤلف المسرحى سعد الدين وهبة.
من هنا بدأت شهرته، فسجلت له شركات الإنتاج 21 أغنية على أسطوانات وشرائط كاسيت مع الفرقة الثقافية، كان انضمامه إلى «الفرقة القومية للفنون الشعبية» فى الستينيات «وش السعد» عليه وفاتحة خير والانطلاق إلى العالمية، فقد أتاح له الفرصة للسفر إلى أوروبا ونال شهرة واسعة خاصة فى باريس، وقد صاحبته الراقصة هالة الصافى لترقص على نغمات الربابة أثناء غنائه، كما تفرغ بعض الوقت لأداء السيرة الهلالية بصوته وتم تسجيلها.
يقول الدكتور أيمن الجوهرى، أستاذ الفلكلور فى معهد الدراسات الشعبية بأكاديمية الفنون: «الريس متقال ظاهرة لن تتكرر.. نجل الريس متقال قام بالغناء على نفس الطريقة لكنه لم ينل نصف شهرة والده»، يضيف الجوهرى: «كان الغربيون يدعون الريس متقال لإحياء حفلاتهم وينتشون بأغنياته وأنغام ربابته، رغم أنهم لم يكونوا يفهمون ما يقوله.. وقام متقال بإحياء حفلات فى سبع ولايات أمريكية لمدة 16 شهرا، وفى ألمانيا دعاه عمدة برلين ليحيى حفلا هناك».
حفلات فى أمريكا وتمثال فى هولندا والفراولة فى برليند
كان الغرب يدعون الريس متقال، لإحياء حفلاتهم ويرددون أغنياته على الرغم من أنهم لم يفهموا ما يقوله حبا وانجذابا، بسبب ما كان يقدمه من فن متميز وغريب على البعض، والتزم الريس متقال، بالزى الصعيدى التقليدى وهو «الجلباب والعِمة»، وظلت أغانيه باللهجة الصعيدية أيضًا على الرغم من سفره حول العالم.
فى إحدى سنوات السبعينيات، حضر أكثر من 5 آلاف سائح مهرجان «أمون»، لمشاهدة عروض الفرق الشعبية، ومن أكثر الفرق التى انبهر بها السياح، فرقة «الريس متقال» الذى أخذ فى التمايل بجلبابه المميز، وعلى رأسه الربابة، وطلبوا من رئيس مدينة الأقصر وقتها ممدوح شوقى محافظ الأقصر، ترجمة أغانيه ومواويله من فرط إعجابهم به
إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفى نهاية كل ليلة يقوم القائمون على المهرجان بتقديم المصنوعات الأثرية القديمة والتقاط الصور مع ضيوف المهرجان.
بدأت أول إنجازاته المتميزة بالانتقال للعالمية وسافر لباريس، وهناك أصبح حديث الصحف والمجلات الفرنسية وغنى فى دار الأوبرا فى باريس.
وذاعت شهرته فى فترة السبعينيات من القرن الماضى، لدرجة أن رؤساء دول عالمية كانوا يطلبون الاستماع لأغانيه فى الحفلات التى تعد خصيصا لهم أثناء زيارتهم لمصر، ووجهت له دعوات للمشاركة فى مهرجانات عالمية.
فى هذه الفترة أيضا أصبح الناس فى البلاد العربية يرددون أعماله من خلال شرائط الكاسيت، وما يُعرض له على الشاشة الصغيرة من فقرات غنائية مصاحبة للرقص والفنون الشعبية.
فى برلين له حكايات وحكايات كان أولها مع عمدة برلين الذى أعجب به بصورة كبيرة، ويحكى الريس متقال: «عمدة برلين سمعنى فى الأقصر بمصر واتبسط جدا وترك لى ظرف كان بداخله ما قيمته 100 جنيه فى الوقت ده، واشتريت وقتها قيراط أرض بـ22 جنيها وفرشت بيتى واتجوزت مراتى الأولى وراضيت الفرقة بتاعتى كمان».
أما الحكاية الأخرى فهى قصة أشهر أغانيه وهى أغنية «الفراولة» فقد جاءته فكرة الأغنية وكلماتها وهو فى برلين «الأغنية دى غنيتها لما رحت برلين وشفت البنات كلها حلوة وخدودها حمرة.. شفت فيهم الفراولة بتاعة مصر قمت غنيت الأغنية دى بدون تجهيز ولا ترتيب».
وفى هولندا صنعوا له تمثالا خصيصا وكتبوا أسفل التمثال عبارة «أعظم فنان شعبى فى العالم»، فى متحف «مدام طوسون» فى مدينة أمستردام بهولندا، بعد أن زارها فى إحدى السنوات وغنى على مسارحها فى أكثر من حفلة، أبهر جمهور الحاضرين بفنه، وأخذ الناس يومها يتسابقون لالتقاط الصور معه تخليدا لذكرى جميلة عاشوها، مستمتعين بما قدمه من الفن الغنائى الصعيدى وعبر عن هويته الثقافية وما تمتاز به من الفلكلور والتراث وجمال اللهجة الخاصة بأهلها.
الموسيقار عزيز جورج، يرى أن الموسيقى المصرية فى حال تم الاهتمام بها على الشكل الأمثل، فسنكون أسياد العالم فى الموسيقى: «فى فرنسا شوفت الريس متقال فى الأوبرا، وكانت كاملة على الآخر،
حقق الريس متقال ثروة هائلة ويروى أنه من شدة ثرائه كان يرتدى ساعة يد مصنوعة من الماس.. وكان شاربه من العلامات المميزة، فقد كان طويلا وكثيفا، وكان يحمل فى جيبه مشطا خصصه لتنسيقه، وكانت بعض أسنانه مصنوعة من البلاتين».
كثير من المطربين المصريين والعرب أعادوا غناء الريس متقال بأصواتهم وهو ما قاله المطرب اللبنانى راغب علامة، عبر قناة «دى إم سى»: «لما امتحنت فى استوديو الفن دورت على حاجة مميزة، كنت عايز أغنى حاجة مختلفة عن الشباب، كنت بحب الأغانى المصرية وكان لى صديق بيسمع الريس متقال، واخترت أغنية «بص ع الحلاوة»، ولقيت لجنة التحكيم بترقص، مرت السنين وبقيت فى لجنة تحكيم أحد البرامج، فتذكرت وقفتى أمام اللجنة».
وعندما سئل الريس متقال فى أحد حواراته السابقة عن ذلك قال: إن معظم أغنياته غناها أشخاص آخرون وهو لا يرى فى ذلك أية مشكلة، فهذا يعنى مزيدا من الانتشار والشهرة.
بحضوره المبهر والمشوق والجذاب وصوته المميز الجميل قدم الريس متقال مجموعة أغنيات أثرت فى وجدان الإنسان المصرى والعربى والغربى، وحفظها الناس لبساطتها وإيقاعها الراقص مع جمال الكلمات التى يغنيها، لدرجة أنه وبمجرد أن نلمح الفراولة نتذكر سريعا أغنيته الشهيرة عندما تغنى بها «الفراولة يا بتاع الفراولة»، إضافة إلى أغان أخرى له بنفس المستوى ونالت شهرة كبيرة وحتى الآن مثل «البت بيضا»، و«يا حلوة يا شايلة البلاص»، و«ميل واسقينى»، و«ضيعت مالى»، و«شبكنى الهوى»، و«بص على الحلاوة»، و«ليل يا أبو الليالى»، يا جريد النخل العالى، الخيالة. «ناس ليها وناس ما لهاش، القلب يهوى واحد بس، حلوانى، ليه ترضى بعذابى، افرحى يا عروسة، بنات العربان، عنابى، يا نور النبى، يا أسمر يا جميل، أبو العيون السود، اه يانا يانا، البت قالت لأبوها، بحر الغرام، سايقة الجمالين، سبنى فى حالى، حبيتك ولا كان ع البال، يا صغَّيرة ع الهوى، غزالك، خاين العيش، خلى بالك، باب النيل، ولدى».
سفير الأغنية الشعبية
يصف الباحث الموسيقى زياد عساف، فى كتابه «المنسى من تراث الأغنية العربية» الريس متقال بأنه سفير الأغنية الشعبية، ووفقا لروايته يقول عساف إن الريس متقال أعاد من التراث الجميل أغنية بتنادينى تانى ليه، والتى أعاد غناءها عدد من المطربين حاليا وتقول كلماتها
بتنادينى تانى ليه
وانتى عايزة منى إيه
مش خلاص حبيت غيرى
روحى للى حبتيه.. وتتحدث عن عزة وكرامة الرجل العاشق
عايزك تكونى مبتسمة
بوقت اللحظة الحاسمة
وإن سألويك قولى نصيب وقسمة
هنجرح فى بعضنا ليه.. روحى للى حبتيه
اشتهر الريس متقال بأدائه الموال الذى يعبق بالحكمة والفلسفة الشعبية البسيطة مثل «يا للى انت حبيت، خلى عزمنى ليلة، يا رب من له حبيب ما تحرموش منه، يا بحر النيل، يا نازل السوق، وليه يا زمان».
ويبقى الملفت للانتباه أن معظم أغانى الريس متقال مستقاة من التراث والفلكلور الصعيدى، ولم يذكر أنه غنى لملحنين مشهورين فى الفترة التى برز بها مع أنه يستحق هذا، بنفس الوقت يلاحظ أن أغلب التسجيلات المتوفرة يبدو بها الصوت غير واضح، خاصة أن معظمها من تسجيلات الحفلات التى كان يقدمها وليس من داخل استوديو، ويستدل من ذلك أنه لم يلق التوجيه الكافى، خاصة أنه كان رجلا بسيطا ولا يجيد القراء والكتابة.
متقال فى السينما
الأغانى المستقاة من فلكلور الصعيد ظلت ولفترة طويلة تجذب إليها المستمعين فى كل البلاد العربية، والأسباب عديدة، فبالإضافة إلى أن الفن الشعبى هو أكثر الفنون التى تعبر عن هوية أى بلد لما تمتاز به من عفوية وبساطة التى هى أساس الصدق والإحساس فى الأداء، وفى نفس الوقت لا نستطيع إغفال المرتكزات الأساسية التى تعتمد عليها الأغنية الصعيدية مثل الحكاية الشعبية والموال الصعيدى والتغنى بالحكم والأمثال الشعبية، مما روج للغناء الصعيدى، أيضا ظهور مطربين من نفس الصعيد تربوا على التراث الغنائى لبلدهم فكانوا الأجدر والأصدق فى غناء هذا اللون، والريس متقال واحد من أهم هؤلاء خاصة أنه كان السفير للأغنية الصعيدية والشعبية على مستوى العالم، بالإضافة لمطربين صعايدة آخرين ومنهم عمر الجيزاوى ومحمد طه.
نجوم الغناء فى مصر زمان كانوا يعون فى قرارة أنفسهم أن نجاحهم يبقى منقوصا إذا لم يقدموا اللون الصعيدى ومنهم على سبيل المثال عبدالحليم حافظ الذى خاض هذه التجربة فى أغنية «على حسب وداد قلبى، وأنا كل ما أقول التوبة»، وغنى فريد الأطرش، «غالى يا بوى، وما نخبيش عليك، ويا مقبل يوم وليلة»، ليلى مراد، «يا بهية»، نجاة الصغيرة، «سلم على»، وشادية «ما كنت ليا وأنا ليك»، ولا ننكر أن هذه الأعمال روجت للون الصعيدى إلا أنه يبقى للمطرب الذى نشأ وتربى فى الصعيد حضور مختلف وكذلك لا ننسى دور شعراء الأغانى الذين ينتمون لهذه البيئة وهم الأجدر من غيرهم فى كتابة الأغانى التى تعبر عن حياتهم وواقعهم الثقافى والسياسى والاجتماعى وأكبر مثال على ذلك تجربة الشاعر الغنائى عبدالرحمن الأبنودى وعبدالرحيم منصور.
السينما كانت إحدى القنوات الرئيسية التى عَّرفت بالأغنية الصعيدية، والريس متقال ظهر كمغنى للون الذى اشتهر به فى أربعة أفلام وهى «الشك يا حبيبى» 1979 إخراج بركات وتمثيل شادية ومحمود ياسين، «التوت والنبوت» 1986 إخراج نيازى مصطفى والبطولة لعزت العلايلى وتيسير فهمى، «أيام الرعب» 1988 مع محمود ياسين وإخراج سعيد مرزوق، وآخرها «المشخصاتى» 2003 لتامر عبدالمنعم.
تجربة الريس متقال فى السينما تعتبر متواضعة قياسا بغيره من المطربين الصعايدة أمثال عمر الجيزاوى ومحمد طه الذين غنوا بأفلام عديدة وأبقوا الأغنية الصعيدية حاضرة فى السينما حتى أواخر الستينيات، بالإضافة لمعظم نجوم الغناء فى زمن سينما الأبيض والأسود، حيث قدموا أغانى باللهجة الصعيدية ضمن هذه الأفلام.
تزوج 9 مرات
تزوج الريس متقال 9 زيجات وأنجب 25 ولدا وبنتا وقيل أيضا 23، وكان ينسى أسماءهم فى كثير من الأحيان، ومن أبناءه المطرب حشمت الذى مات فى سن الشباب والمطرب حجازى متقال، وهو الأقرب إلى والده وسار على خطاه وتعــلم منه حب العــمل والتفــانى وتعلم منه العزف وقدم اللون الصعيدى أيضا مع إعادة لمجموعة من أغانيه، ويعيد فى الوقت نفسه مجموعة أعمال من تراث والده، وكذلك شقيقه «الريس شمندى»،
من بين زيجاته الراقصة سهير حسن عابدين المعروفة باسم هالة الصافى وتزوج قبلها 8 زيجات وعنده 25 ولدا وبنتا وحقق معها نجاحا مبهرا فى الاستعراضات والرقصات على المزمار البلدى، وهى من أول الفنانات اللى اعتزلت الرقص وارتدت الحجاب.
فى سنواته الأخيرة عاش الريس متقال فى ساقية مكى بالجيزة، وانتهى قطار الحياة به فى بيت قديم متهالك وشقة مكونة من 3 غرف وصالة دون مطبخ، وأنفق ما ادخره على الدواء والعلاج، حتى نفد ماله ووافاه الأجل فى 17 يونيو 2004 عن عمر 75 سنة
ضيعت مالى وأنا مالى
ضيعت مالى وأنا أعمل إيه
ضيعت مالى على حلالى
ضيعت مالى على الردى ليه