كل شىء فى رمضان بمصر ظاهرة، وكل خطوة تتحول إلى احتفال، وتراحم، وربما تكون مائدة الإفطار الجماعى فى المطرية العادة التى تتكرر على مدى سنوات، عنوانا لهذا النوع الذى يحول التضامن نفسه إلى احتفال، مثل باقى المظاهر التى تميز شهر رمضان، فالمسحراتى انقرض كمهنة لكنه يستمر كطقس، والكنافة والقطايف والموائد، لكل المصريين بكل توجهاتهم، تماما مثل حرص كثيرين على توزيع مواد غذائية على من يعتقدون انهم بحاجة، وهو نشاط اجتماعى واحتفالى يتم برضا ونوع من التآلف، وبرغبة فى التضامن والتراحم، وطبعا الأعمال بالنيات، وقد تطورت هذه العادات مع الوقت واتسعت، وتمثل سلوكا عاما مقبولا ومرحبا به.
هذه الظاهرة تخضع ككل ما يجرى لتحليلات أو قراءة بحثا عن إجابة، بينما الإجابة تأتى من طبيعة المصريين، وقدرتهم على تحويل الأمر كله إلى احتفالية تجمع بين العبادة والتضامن والرحمة، ويرى البعض أنها انعكاس للاقتصاد، بالرغم من أن ظاهرة الموائد نفسها ولدت على مدار عقود واستمرت فى كل الأحوال وبصرف النظر عن الاختلافات، ويسهم فيها مواطنون من كل الفئات، والدعوة التى يدعوها المصريون لبعضهم «ربنا ما يقطع لك عادة»، وهى دعوة تعنى استمرارية العادة والخير، وقد يسعى البعض لتحميل هذه الظاهرة أكثر مما تحتمل، بينما الكل يعرف أن «الأعمال بالنيات» وأن الأمر يتخذ شكلا مصريا يمتد عبر التاريخ، وأن رمضان فى كل فترة تضاف إليه طقوس وتصرفات.
قبل أيام كان بعض المحللين هواة جلد الذات وتصدير اليأس، ينخرطون فى الإشارة إلى موائد الإفطار فى شوارع مصر باعتبارها أمرا فيه نوع من التعريض بالفقراء، بالرغم من قدم الظاهرة على مدى عقود وربما قرون، وهؤلاء أنفسهم الذين ينظرون له، وسألتهم عن حل لن تجد إجابة.
وبينما كنت أتتبع تحليلات بعض «عقماء اللايكات» رغبة فى تأكيد قدرتهم على نشر «العكننة العميقة» والبحث عن تفسير «دوجاطيقى للتضامن المجتمعى»، جاء الرد بسيطا على طريقة المصريين أنفسهم فى إفطار المطرية، الذى جمع الآلاف فى أطول مائدة جمعت فئات مختلفة بل واستقطبت أجانب وسفراء ونجوما.
موائد الإفطار اختراع مصرى خالص، وبقدر ما تعكس التضامن والرحمة فهى جزء من مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وتقديم الطعام بأشكال مختلفة ومن دون أى تظاهر أو ادعاء، وكان الإفطار الجماعى للآلاف فى المطرية عنوانا لهذا الاحتفال حيث اعتاد أهالى المطرية الحى العريق، وعدد من أحياء القاهرة ومدن المحافظات، أن يقيموا سنويا احتفالا لإفطار جماعى يأكل فيه الجميع من دون تفرقة بين غنى وفقير متوسط أو غيره، بل إن الإفطار يستقطب مواطنين من كل محافظات مصر وأحياء القاهرة والجيزة.
ويعرف كل من يعيش بأحياء القاهرة والمحافظات أن هناك طوال رمضان منازل وأشخاص ربما ليسوا أثرياء ومع هذا فهم مستورين يطبخون الطعام ويوزعونه يوميا من دون ضجة أو استعراض، والموائد مفتوحة وبها طبقات وفئات مختلفة، ليس فيها أى شعور بالخجل أو الكسوف لأن على رأس المائدة يجلس مواطنون يسهمون فى تمويل أو فى تقديم الطعام بانتظام ويأكلون فى هذه الموائد.
ولم تكن الموائد هذه نتاج السنوات الأخيرة لكنها عادة مصرية ممتدة منذ عقود، تضاعفت وانتشرت منذ التسعينات من القرن العشرين بأحياء القاهرة وفى المحافظات، وربما لو تأمل فيها هؤلاء الذين يفتشون على الدونية يكتشفون أنها ظاهرة احتفالية نمت وترعرعت فى مصر من دون ترتيب وبتضامن عام حيث لا أحد يستعرض فيها أو يدعى، وكان هناك على مدار العقود الأخيرة نجوم وأشخاص عامين يقيمون هذه الموائد، أو يسهمون فيها من دون أن يعلنوا فقد كانت ولا تزال أحد ابتكارات المصريين والأغلبية منها تتم بنية صافية ورغبة فى خدمة عامة وتطوع من دون أجر، وبالفعل فإن كثيرين يساهمون فيها عن طيب خاطر مثل كراتين رمضان أو توزيع مواد وغيره وإن كانت تحولت مع السنوات الأخيرة إلى أعمال منظمة ومكثفة وبكميات ضخمة وتسهم فيها جمعيات وأشخاص تطوعا، واللافت للنظر أن هذه الموائد تستقطب أجانب وسفراء ونجوما وعابرين، يحرصون على تسجيلها، وظهر هذا العام فى كم الاهتمام فى العالم بهذه الموائد، التى تعبر عن قدرة المصريين على الاحتفال والتضامن، وأن هذه الظواهر فى مصر فقط، والموائد عنوان لتراحم جماعى من أجل إسعاد الجميع.