أصدر محمد على باشا أوامره بإطلاق الحملة المصرية إلى سوريا، فبدأت القوات البرية بقيادة «إبراهيم باشا يكن» فى التحرك من معسكر الخانكة يوم 29 أكتوبر 1831 قاصدا الحدود السورية حتى وصل إلى تخومها، فاحتل خان يونس، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على».
يضيف الرافعى: «احتلت القوات المصرية غزة بعد أن فرت منها الجنود العثمانية، ثم زحفت إلى يافا فاحتلها، وأثناء ذلك أقلعت السفن المصرية من الإسكندرية تحمل باقى الجيش، ونقل القائد العام إبراهيم باشا «ابن محمد على» يصحبه أركان حربه، ومنهم الكولونيل سيف «سليمان باشا الفرنساوى» وعباس حلمى، ووصلت إلى يافا ثم إلى حيفا، وأنزلت بها الذخائر والمدافع، والتقت هذه القوات بالقوات التى أتت قبلها برا، واتخذ إبراهيم باشا حيفا قاعدة للحركات العسكرية وجمع الذخائر والمؤونة فيها، وشرع فى مهاجمة عكا».
كان محمد على باشا ينفذ حلمه بالسيطرة على الشام لأسباب تذكرها الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «الحكم المصرى فى الشام.. 1831-1841»، قائلة: «كان الشام له وضع خاص وإغراء ملح يراود محمد على بين الحين والآخر، ومنذ عام 1810 وهو يصوب نظره إليها ويخطط للاستيلاء عليها، وكان يعلم جيدا كيف تلعب الأموال دورها فى تنفيذ المقصود، فعرض على الباب العالى أن يدفع 100 ألف كيس جزية سنوية، ويضم الشام لحكمه، لكن الباب العالى رفض».
تذكر «سالم»، أن سوء النية بين السلطان العثمانى ومحمد على جعلت الأخير يرى أنه بسيطرته على الشام سيقف حائلا أمام أى عدوان عثمانى يهدف انتزاع مصر منه، فبدا له أن يخلق الحواجز لحمايتها بالاستيلاء على هذه المنطقة».. تضيف «سالم» أسبابا أخرى منها ما هو اقتصادى، كطموح محمد على فى استخدام موارد الشام لخدمة أغراضه، فكان فى حاجة إلى المواد الخام لارتباطها بالصناعة، خاصة الفحم الحجرى والأخشاب، كما تشير أيضا إلى الطموح العروبى لإبراهيم باشا، حيث أعلن مرارا الخط الذى يرغب فى الوصول إليه، وهو احتواء الجنس العربى فى إطار موحد وشامل، ومن هذا المنطلق رغب فى بناء دولة عربية مستقلة تكون مصر ركيزتها، لاتقتصر على المشرق ولكن يلحق بها غرب مصر حتى تونس، ورأى ضرورة العمل على إعادة الخلافة للعنصر العربى وإحيائها مرة أخرى على يديه، وتستشهد «سالم» بقول إبراهيم: «أنا لست تركيا فإنى جئت إلى مصر صبيا، ومنذ ذلك الحين مصرتنى شمسها، وغيرت من دمى وجعلته دما عربيا».
هكذا اختمر حلم السيطرة على الشام لدى محمد على، فبدأ خطواته حتى وصل ابنه إبراهيم إلى حصار عكا التى استعصت عليه ثلاثة أشهر، بدأت يوم 26 نوفمبر 1831، وفقا للدكتور عبدالرحمن زكى فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير»، مضيفا: «رأى السلطان العثمانى أن يعلن عصيان محمد على وخروجه عليه، لكى يؤلب عليه العالم الإسلامى، ولم يذعن لتهديده، فبادر إلى إعداد جيش يهاجم به قوات إبراهيم خلال انشغاله فى حصار عكا».
يذكر «زكى» أن السلطان العثمانى أعد جيشا بلغ 60 ألف جندى يقوده حسين باشا، وعين عثمان باشا اللبيب حاكما على طرابلس، الذى استطاع الحصول على معاونة حاكم حلب فأمده بالرجال والعتاد، ثم تقدم صوب اللاذقية وطرابلس، وفى 31 مارس 1832 هاجم طرابلس، فخرجت الحامية المصرية بقيادة مصطفى بربر ومعه 400 من الدروز بقيادة الأمير خليل، وأنزلوا الهزيمة بقوات عثمان باشا.
يضيف «زكى» أن أنباء هذه المعركة وصلت إبراهيم باشا فى عكا فتركها للقوات المحاصرة، وتقدم إلى صيدا وبيروت على رأس 10 آلاف جندى، وفى 4 إبريل وصل إلى بادون على بعد 6 ساعات من طرابلس، ولما سمع عثمان باشا باقتراب إبراهيم باشا ترك مدفعيته وعتاده، وفر إلى منطقة حماه، وفى اليوم التالى دخل إبراهيم طرابلس وقرر مطاردة عثمان باشا، فتجاوز لبنان، وأدرك حمص، وأصبح مشرفا على وادى نهر العاصى.
يضيف «زكى»، أن إبراهيم رأى ألا يبعد كثيرا عن عكا، فترك حمص حيث لا يتوفر العيش والمؤونة لجيشه، واعتلى وادى العاصى حتى وصل إلى خان قصير، وعسكرت قواته إلى الشرق فى «سهل الزراعة»، وتوهم عثمان باشا أن تراجع إبراهيم عن حمص علامة ضعفه، فجمع إلى قواته حشدا من أهالى المنطقة والأكراد وفرسان العرب بلغ عددهم 15 ألف مقاتل، وسار بهم لمقاتلة إبراهيم الذى دبر له الخطة الناجحة.
قسم إبراهيم قواته إلى «قولين»، وحشد خلفهما مدافعه فى أماكن لا يراها العدو، فكان ذلك خداعا منه بأنه سيلزم الدفاع، مما أغرى عثمان باشا بالهجوم بكل قواته، ولما اقتربت هذه القوات ارتد المصريون بسرعة عجيبة خلف المدافع وحصدت المهاجمين حصدا، وانتهت «معركة الزراعة» فى 14 إبريل، مثل هذا اليوم، بهزيمة الجيش التركى وارتد عثمان باشا إلى حماه، وعاد إبراهيم إلى بعلبك ليستعد لجولة أخرى.