فى فرنسا، وفى يوم من الأيام وأنا أدرس فى معهد المحاماة فى باريس، تأخرت فى التسجيل فى إحدى الدورات، وكانت المسؤولة عن التسجيل من أصل جزائرى، وبدأت محاولاتى معها كى أحاول تسجيل اسمى، وساعدنى فى ذلك أنها تحب اللهجة المصرية، وإذا بها تقول لى إنها وأسرتها تعشق عادل إمام، من هنا بدأت خطة ممنهجة لإغرائها بعادل إمام، ووعدتها بأسطوانات عليها مسرحيات عادل إمام، فإذا بها تنهار أمام هذا العرض، وتقرر أن تسجلنى فى هذه الدوره التدريبية، خرقًا لكل القواعد، فكانت مسرحيات عادل إمام السبب الأول كى ألحق بهذه الدورة التدريبية.
وفى موسكو، وفى مقر السفارة المصرية، دعانى السفير المصرى محمد البدرى إلى عشاء بحضور سيادة اللواء المحترم محمد العصار، وقال لى إن مستشار الرئيس بوتين للشرق الأوسط سيكون حاضرًا لهذا العشاء، وجاءت جلستى على طاولة اللواء العصار، ومستشار الرئيس بوتين، وهو شخص يتحدث العربية بطلاقة، وعمل سفيرًا لبلاده فى عدد من الدول العربية، منها مصر، فإذا به يفاجئنى ويقول لى إن إحدى أمنياته أن يأتى عادل إمام إلى روسيا، وإنه من عشاق هذا الفنان، فإذا بى وبشكل تلقائى اتصل تليفونيًا بالفنان عادل إمام لأحكى له هذه الواقعة، فقال لى: «لو ده هايخدم بلدنا أروح»، لكن طبعًا قالها بطريقة عادل إمام.
أنا حكيت هذين الموقفين كبداية لهذا المقال الذى خصصته للحديث عن عادل إمام، ويمكن هذه هى المرة الأولى التى أكتب فيها بعيدًا عن السياسة، لكننى وجدت نفسى مشتاقًا للكتابة عن هذا الرجل.
وللأمانة، ما دفعنى جدًا لكتابة هذا المقال، ليس فقط تاريخ عادل إمام كأكبر الفنانين العرب مكانة، أو مدى شعبيته فى الوطن العربى، لكن فى الحقيقة إننى كأى من المصريين تأثرت كثيرًا بدقائق فى نهاية مسلسل «مأمون وشركاه»، تحدث فيها عادل إمام بصوته، وكأنه يعطى وصية أو يتحدث عن ترتيبات لعالم لن يكون فيه.. لا أخفى سرًا إذا قلت إننى بكيت أنا وكثير ممن كانوا معى، ليس فقط لبراعة الأداء الصوتى لعادل إمام، لكن وبمنتهى الصراحة لأننى تخيلت أنها رساله حقيقية من هذا الفنان إلى محبيه فى لحظة لا أتمناها، وأدعو الله له بدوام الصحة والعافية.
وككثير من المصريين استطاع عادل إمام أن يبكيهم فى دقائق، كما استطاع أن يضحكهم على مدى أيام وأسابيع جسد فيها شخصية الشخص البخيل، ولكن بأسلوب عادل أمام.
وهنا بدأت أفكر فى هذه الشعبية فى الشارع العربى، وهذا التأثير الكبير لهذا الرجل، ألا يمكن استغلاله فى قضايا الوطن، كذلك سألت نفسى لماذا لم يخرج من المجتمع المصرى حديثًا من هم فرسان للقوة الناعمة المصرية؟، سألت أيضًا: لقد قررنا يومًا أن يكون هناك عيد للفن، لماذا تراجعنا عن الاحتفال بهذا اليوم؟.. لن أنسى مشهد الرئيس السابق عدلى منصور وهو يصافح السيدة فاتن حمامة ويكرمها يوم الاحتفال بعيد الفن.
إننى أدعو الدولة مجتمعة إلى الاستفادة من قوة مصر الناعمة، من هؤلاء المبدعين الذين أثروا الوجدان العربى بأعمالهم الفنية، هؤلاء ثروات مصرية لا نشعر بقيمتها وهم أمام أعيننا، ولا يتم تكريمهم فى حياتهم التكريم اللائق.
من منا ينسى عبدالوهاب وأم كلثوم وطه حسين والعقاد؟، من فى الوطن العربى من المثقفين لم يقرأ روايات نجيب محفوظ؟، ما الدولة العربية التى حظيت بكوكبة من المبدعين مثل مصر؟
«يا ترى البلد لسه فيها ناس بحجم هذا الإبداع لكن تنقصهم الفرصة»؟.. أى دولة تستطيع أن تجد العشرات الذين يصلحون لتشكيل الحكومة، لكن هل تستطيع هذه الحكومة أن تؤثر كما تؤثر أعمال عادل إمام؟، «لو مشى عادل إمام فى الشارع ومشيت الحكومة مجتمعة الناس هاتروح لمين»؟!
لو تبنت الحكومة قضية وشكلت لها لجنة، ولو تبنى عادل إمام فى أحد أعماله نفس القضية، لمن سيكون التأثير الأكبر والانتشار؟
الدراما المصرية هى انعكاس للمجتمع المصرية، وهى أيضًا توجه المجتمع وتقوّمه، وتظهر السيئ لنبذه، والحسن لاتباعه، ولها تأثير كبير بالإيجاب عندما تجيد، وبالسلب عندما تفشل، عليك أن تتخيل حجم الجرائم التى تظهرها بعض الأعمال، أو التى يقوم بها بعض الفنانين بشكل مبالغ فيه، وبعيدًا تمامًا عن مجتمعنا كى يحصل على رضاء وإعجاب الفئة المتوسطة الثقافة، و«يشيل الداخلية هم أن حد يقلده فى حركات الإجرام».
أذكر أن الرئيس السيسى فى أحد اللقاءات قال للفنانين والمبدعين «ربنا هايحاسبكم على أعمالكم التى تؤثر فى الناس»، وهذه حقيقة.
تحية للفنان الرائع عادل إمام، أطال الله فى عمرك، ونداء إلى الدولة بإعادة عيد الفن، ونظرة إلى قوة مصر الناعمة.
