دخلت الحرب فى أوكرانيا عامها الثانى، ولا تزال المعلومات المتاحة قليلة وتختفى الحقيقة خلف زحام البيانات المعلنة، لكن المؤكد أن الصراع القائم وبصرف النظر عن تفاصيله يترك تداعيات صعبة على اقتصادات العالم، وينبئ بتحولات أخرى، هذه الحرب وغيرها من حروب العالم المعاصر لا تجرى بالسلاح فقط، وبجانب الصواريخ والدبابات والطائرات التقليدية والمسيرة والأقمار الصناعية، فإن العالم أمام آلات إعلامية لا تقل عن الدبابات وطلعات الطيران، وهذه الآلة لا تبث فقط أخبارًا، لكنها تبث شائعات وأخبارًا مغسولة وملونة ومصنوعة، أدواتها ومنصاتها أدوات الاتصال والإعلام والفضائيات و«السوشيال ميديا» التى توفر بعض المعلومات وكثيرًا من الأوهام والأخبار الناقصة والمشوهة، هناك الكثير من المعلومات والقليل من المعرفة.
ورغم أنه يفترض أن تكون معرفة العالم بالتفاصيل أكثر دقة، فإن العكس يبدو هو الغالب، حيث تتزايد المعلومات وتقل المعرفة وتتوه الحقيقة فى ركام وزحام الحرب، والحرب فى أوكرانيا والمواجهة بين روسيا من جهة وأوروبا وأمريكا من جهة أخرى وحولها النزاعات والصراعات والمحاولات المستمرة للاستقطاب، كلها تؤكد أن الحقائق أقل، والصراع أقل إتاحة للمعلومات، وأكثر إثارة للتشويش.
وهذا ليس فقط فى حرب أوكرانيا، وإنما فى كل الصراعات والحروب الداخلية والإقليمية والعالمية، حيث تكون الحقيقة هى الضحية الأولى، وكل طرف يصر على تقديم قصته أو روايته للحكاية، ولهذا يظل صراعا تبدو القدرة على توقع نتائجه بعيدة، فى ظل منصات أقرب إلى استوديوهات تحليل مباريات كرة القدم ينقسم المحللون لفريقين، ينخرطون فى تحليل المباريات من دون أن يقولوا شيئًا، ولا يصدرون غير الانحياز.
ورغم كثافة أدوات النشر، فإن الحقيقة هى الضحية، مع وجود منصات وحرب «سوشيالية» لا تقل سخونة عن الحرب الدائرة على الأرض، تبادلت أوروبا وروسيا إغلاق وحجب منصات التواصل فى بداية الحرب، أوروبا حجبت وسائل إعلام روسية مثل روسيا اليوم وسبوتنيك، وردت روسيا بحجب منصات غربية مثل دويتشه فيله وغيرها، واعتبرت أوروبا القرار الروسى معاداة للإعلام والحريات، وهو ما أثار سخرية روسيا التى قالت إنها ترد على قرار حجب منصاتها الإعلامية، و كل مشجع لطرف، اتهم الطرف الآخر بالعدوان على الحرية، بينما الحقيقة هى الضحية، وفى الحروب تسقط الكثير من الشعارات والمبادئ المعلنة، وتتوه الحقيقة، وهو ما يجرى اليوم بشكل واضح، فى كل الصراعات المعلنة، حيث الحرب هى حرب دعاية أكثر من كونها حربًا بالسلاح.
كل الصراعات تشهد ضجيجا والتعليقات والتحليلات التى تستند إلى أخبار يفترض أنها لا يمكن أن تكون صادقة تمامًا، خاصة هذه التى تنطلق من انحيازات مطلقة أو كلاشيهات، وكل من يتابع الحروب على مدى نصف القرن الأخير، يعلم أن الحقيقة هى أولى ضحايا الحرب، ومعها أبرياء من كل الأطراف يدفعون ثمنًا من حياتهم وجيوبهم.
هذه التحولات التى يشهدها العالم، تفرض تفاعلاتها، وتنتج آثارا اقتصادية وسياسية، ويرى البعض أنه إعادة تشكيل النظام العالمى، وشهدت العقود الثلاثة، تغييرًا فى موازين القوة، وجرت تغييرات على الأرض، وفى الاقتصاد، والعولمة، التى بشر منظروها بأنها تعنى سقوط الأسوار، بينما النتائج هى قيام المزيد من الأسوار حول الحدود والاقتصادات، ومثلما كتب برونو تيرترى، مدير مساعد مؤسسة البحوث الاستراتيجية بباريس «أثارت العولمة أملًا بزوال الحدود، لكنها فى الواقع أدت إلى «صدمة ارتدادية» وتغذية «النزعات السيادية والقومية» التى تحبذ الحواجز، بعضها لمنع دخول نازحين، أو لاجئين من صراعات أخرى، حيث تفاعلت قضية اللاجئين خلال العقد الماضى، مع تدفق اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط بسبب تحركات وصراعات وحروب أهلية نشأت فى ظل العولمة، وحتى حرب الدعاية اختلفت مع ثورة معلومات واتصالات، ويسعى كل طرف لامتلاك أدوات دعاية، بنفس قدرات دور أسلحة الدمار، فى الردع والمواجهة، العالم أصبح فيه الكثير من منصات الدعاية، والقليل من الحقيقة، ضمن نظام يتشكل فى ولادة متعسرة يدفع مواطنو العالم ثمنها.