حين لفظ الموسيقار سيد مكاوى أنفاسه الأخيرة فى 21 إبريل، مثل هذا اليوم، عام 1997، كان يختتم رحلة جسد أنهكه المرض فى أيامه الأخيرة، ويختتم رحلة فريدة فى الحياة خاضها منذ أن جاء إلى الدنيا يوم 8 مايو 1927، وبقدر ما قدم فيها عبقرياته الموسيقية التى جعلته واحدا من كبار مبدعيها فى تاريخ مصر، قدم أيضا نموذجا للتحدى فى الحياة جعله «العبقرى الضرير»، بوصف الكاتب والمؤرخ الفنى عبدالنور خليل فى كتابه «المعممون فى ساحة الغناء والطرب»، مضيفا: «كانت تسيل دموعه من مآقيه وتبلل خدوده كلما غنى بيت الشعر: «هل من سبيل أن أبث صبابتى، أو أشتكى بلواى أوأتوجعا»، وهو من قصيدة لأم كلثوم لحنها الشيخ أبوالعلا محمد ».
تعيد نعمات أحمد فؤاد فى كتابها «أم كلثوم وعصر من الفن » عبقرية «مكاوى» الموسيقية إلى أنه «اجتمع لديه مع الموهبة وذكاء الفطرة فيه، ذكاء الإحساس، وإحساسه مركز فى أذنه، لأن بها يرى ويسمع، ومن كانت آذانهم لهم عوينا، ملتهبو الرغبة فى السماع ».
أما عبقريته فى «عيش الحياة» فتعبر عنها ابنته أميرة فى مقالاتها «حكايتنا احنا الاتنين» المنشورة على موقع بوابة الحضارات، الأهرام، قائلة: «ولد فقيرا فى حارة قبودان بالسيدة زينب لأسرة مثقلة بثلاثة أبناء وثلاث بنات، وفقر يأكل الأرواح، أصابه مرض ما فى عينيه وعالجته أمه بفقرها وجهلها وبساطتها بإضافة مسحوق البن فى عينيه، فأخذ بصره فى الرحيل رويدا رويدا إلى أن حل الظلام مكان النور».. تضيف: «ظللت إلى أن أتممت السابعة من عمرى على يقين أنه مبصر، فكيف وهو لا يرى يتحرك بهذه الأريحية، يلعب الدومينو بحرفية قاهر لا يستطيع أحد أن يغلبه، يصلح الأجهزة حين تتعطل فى المنزل، يدير كل شىء بروح وعقل مبصر إلى أن رأيته يوما دون نظارته السواء وعلمت أن أعيننا لا تتشابه».
تتذكر أميرة إجابته على سؤالها: «انت بتشوف إيه؟»، قائلا: «الخيال ده حاجة جبارة، أنا بتخيل كل حاجة، ماتنسيش إنى كمان كنت باشوف شوية، بس أنا بتخيل كل حاجة، وكل حاجة شايفها بخيالى، وكلها حاجات حلوة، زمان وقت جمال عبدالناصر كانوا عارضين على أعمل عملية فى الاتحاد السوفيتى وأفتح، بس أنا مارضيتش، يعنى أنا متخيل الشجرة حاجة، افتح ألاقيها حاجة غيرها؟ اتصدم فيها ليه؟..الحمار مثلا أفتح أنا ألاقيه حاجة تانية، أقوم أزعل منه وأنا بحبه».. تعلق «أميرة»: «كان يفتخر بمشواره الذى طالما رأى أنه يستحق أن يحكى».
ساهمت بيئة «الفقر والغناء» فى تكوينه، ويذكر عبدالنور خليل: «كانت أسرته جميعا تتميز بالصوت وحب الغناء والطرب رغم الفقر الذى يحوطهم، كان والده بائعا متجولا، يحمل بضاعته على عربة يدفعها أمامه متنقلا بين حارات حى عابدين وشوارعه، وهو ينادى على البضاعة نداء جميلا يرسله مغنى فى عذوبة تسر نفوس سامعيه حتى يقبلون على بضاعته، ثم يعود إلى بيته ينفق الليل منصتا للجرامافون الذى يملكه، وأسطوانات الأغانى التى تزيد على ثلاثة آلاف أسطوانة، وفى هذا الجو الموسيقى استمع إلى عبده الحمولى ومحمد عثمان والشيخ الصفتى والشيخ يوسف المنيلاوى وغيرهم، وبعد إصابته بالعمى ذهب الكتاب وحفظ فيه القرآن الكريم وأجاد تلاوته، وسرعان ما اشتهر فى الحى بوصفه مقرئا، لكنه كان يحلم بأكثر من أن يكون مقرئا، كان يسعى شغوفا إلى إشباع هوايته للموسيقى بالغناء».
مضت الرحلة بتفاصيل كثيرة حتى كان التحاقه بالإذاعة، و«كان الفقر والعجز لا يوقفه» بتأكيد عبدالنور خليل مضيفا: «كانت الأغنية المصرية فى النصف الأول من الخمسينيات وبعد ثورة 1952 قد ألقيت فيها بذور التجديد والتطوير، وفى هذا ظهرت مجموعة أسماء جديدة من الشعراء والملحنين أبرزهم صلاح جاهين، الذى اقترن بمكاوى فى روائع عديدة أبرزها الرباعيات وأوبريت «الليلة الكبيرة» الذى كان حدثا فى النغمة المصرية الجماعية الأصيلة، التى افتقدها الناس إلا فى تراث الشيخ سيد درويش، يؤذن بميلاد سيد درويش ثان فى الموسيقى والنغم المصرى»، ومع فؤاد حداد قدم «المسحراتى» و«الأرض بتتكلم عربى»، وجاء تعاونه مع أم كلثوم فى لحنه «يا مسهرنى» الذى استبعد فيه كل الآلات الغربية الحديثة، وأصر على الآلات الشرقية المعتادة، ولما سئل عن ذلك أجاب: «وهل فقدت أغنية يا مسهرنى شيئا من رونقها؟».
يضعه الموسيقار محمد عبدالوهاب فى مرتبة خاصة على خريطة الموسيقى العربية، قائلا عنه فى كتاب «عبدالوهاب.. أوراقه الخاصة جدا» تقديم الشاعر فاروق جويدة: «مريح ومهدئ، وعندما أسمعه يؤدى بصوته ألحانه أشعر بأنه يسب المغنيين والملحنين، ويسب اليوم الذى وجد فيه فى وقت واحد مع هؤلاء وهؤلاء، وأشعر وكأنه يقول لهم بغنائه: هكذا يكون الغناء وهكذا يكون التلحين يا أولاد ال.. ألحان سيد مكاوى هى ما تبقى من جميع الملحنين».