بدارة.. لم يقل الاسم شهرة عن اسم «سمارة»، ولا أتجاوز إذا قلت إن «بدارة» نافست وبقوة فى شهرتها مسلسل «سمارة» وهو الأشهر فى تاريخ الإذاعة المصرية فى منتصف الخمسينيات، وأذاعته إذاعة الإسكندرية بعد عامين أو أكثر من التحاق «بدارة» وانطلاق مشوارها الغنائى، الذى عرفه الإسكندرانية ورددوا وراءها الأغانى الشعبية الأصيلة، التى عبرت عن أفراحهم وأحزانهم وآلامهم وأوجاعهم.
بصوت لم يعرفه المصريون من قبل، مثل رنين الذهب مسكون بكل المعانى والمشاعر من الحب إلى الهجر، ومن الفرح إلى الوجع والألم، تغنت بالأغنية والموال الشعبى فردده الشعب المصرى وحفظ السكندريون جميع أغانيها عن ظهر قلب، كما أنتجت لها إذاعة الإسكندرية العديد من الأغانى.. تغنى للحب وللخيانة من الحبيب أشهر مواويلها، وأشهر موال مصرى حتى الآن:
«طلعت فوق السطوح أنده على طيرى
لقيت طيرى بيشرب من قنا غيرى
زعقت من عزم ما بى وقلت ياااااا طيرى
قالى زمانك مضى دور على غيرى».
ثم وهى تستعطف الحبيب وتترجاه وتستحثه أن يعلمها طبعه بعد أن اكتوت بلهيبه واحترق قلبها:
«يا حلو قولى على طبعك وأنا أمشى عليه
الحب بدعة وناره والعة.. وأنا أمشى عليه
علمنى طابعك أطاوعك.. يا منى عينى
أوصف طريق الهوى ليا.. وأنا أمشى عليه».
الله الله.. ثم ينطلق صوتها ذات الرنات الذهبية والنحاسية الأصيلة والخاصة جدا لتغنى «من فوق شواشى الدرة قمرية تندهلى».
فى 11 حارة بندقة بحى بحرى بالإسكندرية، ولدت بدارة أو بدور محمد على إبراهيم الشامى- وهذا اسمها الحقيقى- عام 1929- كما يذكر المؤرخ الفنى عصام السيد وصاحب رابطة الفن السكندرى الأصيل- لأم إسكندرانية وأب من رشيد، ارتحل إلى الإسكندرية بحثا عن الرزق ولقمة العيش الحلال وتكوين أسرة، فعمل فى صيد الأسماك كعادة عدد كبير من أهل الإسكندرية فى بحرى والأنفوشى وتزوج وعملت معه زوجته أم بدارة فى بيع السمك،
يتوفى الأب مبكرا وتتبعه زوجته وتنتقل بدور أو بدرية للعيش مع خالتها، وتحملت مسؤوليتها فى سن مبكرة. لم تتلق بدارة حظها ولو القليل من التعليم فى المدارس أو مجرد معرفة القراءة والكتابة، نظرا للحى الفقير الذى تعيش فيه، وأيضا لم يكن الاهتمام بالتعليم شائعا، خاصة للبنات وقتها، وكان أيضا من سوء حظ بدارة فى ذلك الوقت أن الفنان الكبير زكريا الحجاوى، مكتشف رواد الفن الشعبى، لم يكن قد بدأ حملاته الاستكشافية بعد، فتعمل بدرية فى مصنع نسيج بشركة الغزل الأهلية على طريق الإسكندرية-المحمودية.
الموهبة والفطرة وحدهما هما اللذان دفعاها إلى الغناء، أثناء ورديات العمل، غنت لزميلاتها وعرف كل من بالمصنع بحلاوة ونقاء وجمال صوت بدارة، واعتادت على الذهاب للسينما مع زميلاتها العاملات، وكن يرددن أغانى ليلى مراد، وكان صوتها هو الأجمل بين زميلاتها، ومنذ ذلك الحين اعتبرت ليلى مراد مثلها الأعلى،
وذات يوم طلب زميلاتها منها أن تغنى فى فرح زميلة لهن، فغنت وكان الصوان منصوبا فى الشارع- شارع إيزيس- فهرول الناس قبل الجيران لسماع صاحبة هذا الصوت الفريد من نوعه.
من بين الجيران، كان المطرب والملحن بإذاعة الإسكندرية الفنان محمد الحماقى يلتقط أو يصطاد الحماقى كالصياد الماهر الباحث فى عنق البحار عن المحار واللؤلؤ صاحبة هذا الصوت الذهبى الرنا، ويطلب منها أن تعمل معه فى فرقة شعبية فى أفراح ومناسبات الإسكندرية وما يجاورها، وتلتحق بفرقة الأسطى ريا ثم فرقة حمامة العطار وخليل الفكهانى وسيد بخيت وسعيد الحضراوى ومحمود عبدالله الشهير بالدكش، ونعمة السمرة وباتعة السلامونى وسنية محمد، كما قال الباحث الصحفى محمد العسيرى، ثم تغنى فى فرقة الإنشاد الدينى التى كانت تقام فى موالد أبوالعباس المرسى وياقوت والبوصيرى وإبراهيم الدسوقى فى دسوق والسيد البدوى فى طنطا، وكانت أقرب إلى المداحة منها إلى المطربة الشعبية.
علمها أستاذها محمد الحماقى أصول الموسيقى والغناء، فتتلمذ على يده وتنهل منه انتظارا للحظة المناسبة والفارقة فى مشوار بدرية الفنى، ففى عام 1954 تتأسس إذاعة الإسكندرية، وتدخل بدارة إلى الإذاعة الوليدة فى ذاك الوقت، وكان اسمها «إذاعة اللاسلكى»، عندما طلبت مطربين من الجنسين، تقدمت بلحن من أستاذها ومعلمها محمد الحماقى، وهى أغنية «على باب الدار استنيتك» أمام لجنة مكونة من حافظ عبدالوهاب مؤسس إذاعة الإسكندرية، وبابا شارو محمد أحمد شعبان ومهندس الصوت الإيطالى مسيو «اردينوى»، وتم قبولها كـ«مطربة ريفية» رغم أنها بنت البحر والحارة الشعبية، وتتزوج عازف الأوكورديون السيد محمد حسين، ويصبح اسمها الفنى بدرية السيد.
كانت تلك هى أسوأ فترة فى حياتها، حيث تم حصرها فى الأغانى الريفية، وعندما اعترضت وقالت إنها ليست فلاحة، اعتبر حافظ عبدالوهاب ذلك تعاليا وتجاوزا منها، وأوقفها عن الغناء بالإذاعة فترة واتهمها بأن صوتها بلا إحساس.
ويلفت المؤرخ عصام السيد إلى أن الإيقاف من الإذاعة كان بمثابة نقطة تحول فى حياة بدارة، فقررت بذكائها الشديد الفطرى أن تتفرغ لغناء الموال، وطوعت موهبتها وقوة صوتها لأداء المواويل فتربعت على عرش الموال، مما جعل القائمين على إذاعة إسكندرية فى حرج شديد، ودفع ذلك حافظ عبدالوهاب إلى إعادة التعاقد معها، فعادت بالفعل ولكن بشروطها، وهى أن تختار الأغانى والألحان، وغنت بعدها أجمل أغانيها «يا ابوقلب دايب، فاتوا الحلوين، ادلع يا رشيدى».
ومن أجمل أغانى «بدارة»: «من فوق شواشى الدره قمريه بتغنى، سيدى يا سيدى» أما أشهر مواويلها «طلعت فوق السطوح اسال على طيرى، صعيدى ولا بحيرى، وحلوة والنبى، يا ريس البحر» و«حنا يا حنا».
«بدارة» كما أطلق عليها المجتمع السكندرى أو بدرية السيد، سيدة الأغنية الشعبية فى مصر، يقول عنها المؤلف الموسيقى «فتحى خالد» وخال المطربة أنغام: إن بدرية السيد كانت شديدة الذكاء، لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة ولكنها كانت تحفظ كلمات الأغنية بسرعة شديدة، وكانت تقوم بأداء الأغنية على المسرح فى تعبير فنى يبهج الجمهور بشدة.
ويضيف خالد: إن بدرية كانت تهتم بالموهبة فى الكلمات والألحان ولا تجرى وراء الأسماء اللامعة، فكانت بذكائها تطلب بعفوية شديدة كبنت بلد من الملحنين الموهوبين والمؤلفين أن يكتبوا ويؤلفوا لها، وأنا التقيت بها فى فترة السبعينيات على المسرح، وكانت قد سمعت األحان بعض الأغانى المسرحية من تأليفى، فطلبت أن ألحن لها، وقالت بعفوية شديدة: «انت زى القرع تمد لبرة كل ما اسمع أغنية حلوة يقولولى فتحى خالد»، فلحنت لها عشر أغنيات وأربعة مواويل وشريطا كاملا أنُتج عام 1979 وسُمى بدرية 1980 ومن بين هذه الأغانى أغنية «قصقصى طيرك».
كانت تعشق الإسكندرية، ورفضت بشدة الذهاب إلى القاهرة بعد إلحاح شديد من الموسيقار القدير «بليغ حمدى» الذى قابلها بالإسكندرية فى أحد فنادق ستانلى، وسمع صوتها وغنى معها على العود، وطلب منها أن تغنى من ألحانه بشرط القدوم للقاهرة، لكنها قالت له: «لو السمك طلع من المية بدرية ما تطلعش من إسكندرية»، كما رفضت محاولات زكريا الحجاوى لاستقدامها للقاهرة سواء للإذاعة أو للسينما أو مولد الحسين أو للانضمام لفرقة الفلاحين.
وعندما سمعها الموسيقار محمد عبدالوهاب قال: «عندكم فى الإسكندرية مطربة صوتها ألماس لكنها تحتاج لإزالة بعض الأتربة من عليه حتى تتربع على عرش الغناء».
تم اعتماد صوتها فى إذاعات القاهرة، واصبحت فى منافسة مع أهل الطرب، ومنهم خضرة محمد خضر وفاطمة سرحان وفاطمة عيد وسعاد منصور وغيرهن، وطبعت صوت القاهرة لها مجموعة من الأشرطة والأسطوانات، وقدم لها الألحان الموسيقار محمد الموجى.
لحن لها محمدالحماقى الكثير منها «انى من البندر يخطبنى» من كلمات عباس الخويسكى، و«يا ست يا أم زكى، وماتزودهاش» للمؤلف التركى محمد إبراهيم و«يا سلام على دارنا، وآه يا معلم»، من تأليف سيف النصر محمد.
تعاون معها العديد من ملحنى الثغر، ومنهم الموسيقى على إبراهيم، التى غنت من ألحانه موال «الأوله فرحانالك» للمؤلف على التركى، كما غنت من ألحان محمد غنيم أشهر أغنياتها «القسمة والمقدر» من نظم أحمد السمرة، وكان ذلك اللحن يغنيه المطرب عبدالرزاق إبراهيم ومسجل بالإذاعة بالفعل، ولكن لم يشتهر إلا على لسان بدارة.
كما غنت من ألحان محمد غنيم «حنة يا حنة» من نظم أحمد أباظة
وموال «عجيبة ع الجار» من تأليف مصطفى الضمرانى، و«الأوله القمح» من نظم على التركى، «بحبه يا خاله» للمؤلف أحمد طه،
«روح يا شوق وطلع القمر» من نظم ابن دمنهور أحمد ملوخية
وغنت من موسيقى البارع ابن البحيرة منير الوسيمى «أما عجايب» من نظم أحمد دهب، وغنت من ألحان محمد على سليمان «البلبل الغريب» و«اه ياخللى» من كلمات محمد مكيوى، ومن ألحان ابن المحمودية عبدالفتاح بدير «ابن خالى» من كلمات محمد سعيد أحمد «أهل السماح» من نظم الشاعر الواعى السيد مسعد، ومن ألحان الراعى صبحى شفيق غنت أفراح وسواحلية، وقصة ياسين من نظم محمد مكيوى «بحيرى يا واد بحيرى وآه م البحراوية طالعين لاسكندرية» من نظم المؤلف الكبير محمد سعيد أحمد، 3 نغزات لمحمد طلعت أحمد، عليل يا تمرجيه لأحمد دهب، عاشق جمالك يا قمر وصعيدلى ولا بحيرى ولا الهوى رماك، فى المسا لعبدالمنعم خوجه، لسيف النصر محمد، سيدى ضربنى بعاصيته الخضرا للتركى محمد إبراهيم، مصر قالت للأستاذ الشاعر عبدالمنعم كاسب، مسيلى ع الغايب لفاروق سليمان، نسيم الحرية للمؤلف فتحى شريف، ومن ألحان الفنان فتحى خالد «خال المطربة أنغام» غنت بدرية السيد تعجبنى، وقصقصى طيرك، وقوليلى يا جده، وطلعت فوق السطوح أنده على طيرى لاقيت طيرى بيشرب من قنا غيرى «موال»، وأيضا موال يا قلبى ليه تبكى للمؤلف سيف النصر محمد، ومن أشهر أعمالها غنت من ألحان جلال حرب «حميدو»، اللى شاغلنى بقاله زمان.. غالى عليه وقلبى يريدو.. جابلى الشبكه وجى كمان.. صحبة ورد شايلها بايدو.. م الأنفوشى وجه علشانى.. راح يخطبنى الليلة حميدو.
ولا ننسى الملحن الهادى جدا ابن كوم الشقافة محمد مرسى، الذى قدم ألحان
«حوده» من تأليف التركى محمد إبراهيم «أطال الله عمره».
«يالمون ع السجر طارح والله عمرى ما انسى ليلة امبارح» من نظم عبده الترجمان.
وغنت ملكة الغناء الشعبى من ألحان الموسيقار شريف الأبيض «دوبت قلبى»، وغنت من ألحان سيد شعبان «ضحك القمر» من نظم عبدالمنعم كاسب، ومن ألحان زاهر عبدالحميد غنت موال يا حب امرك وعلى يا على لمحمد زكى الملاح.
ومن أغنياتها الأولى فى الإذاعة بالإسكندريه، لحن سقانى شرباته للملحن إبراهيم عثمان، وكلمات رشدى عبدالرحمن، وغنت من ألحان أحمد سالم شط غناوى لسيف النصر محمد أيضا، غنت من ألحان الأستاذ والمعلم الموسيقى فتحى جنيد «من فوق شواشى الدرة» لعلى حسن حموده، ومن ألحان وتأليف الفنان الشامل إبراهيم الكيزانى، كان عندى غزال كعبه محنى، وقدمت أكبر مجموعة من المواويل ومنهم «سؤال لأهل الجمال، وموال لما حكم ربنا، وموال السن بالسن، وموال الناس».
وشاركت بالغناء فى الصور والبرامج الغنائية، ومنهم البرنامج الغنائى صابر وقدرية، غنت ومعها عبدالرزاق إبراهيم وزينب عوض الله، من تأليف محمد سعيد أحمد وألحان صبحى شفيق، لقا الأحبه، البرنامج الغنائى، وغنت مع عزت عوض الله وأحمد الحبروت ورسميه إبراهيم وحميده موسى، وكان من تأليف أحمد زيادة وألحان عبدالروؤف عيسى، والبرنامج الغنائى النيل والغناء مع عزت عوض الله وعبدالرزاق إبراهيم، وكان من تأليف على حسن حموده، وألحان فتحى جنيد، والأوبريت الغنائى الطيــر، وغنت مع المطرب فايد محمد فايد، وكان من نظم حامد الأطوس ابن دمنهور وألحان محمد الحماقى.
تراجع دور وحضور الأغنية الشعبية فى السينما المصرية، ولم تحظ بدرية السيد إلا مرة واحدة بالتمثيل والغناء من خلال فيلم «مملكة الهلوسة» 1983 مع محمود عبدالعزيز وآثار الحكيم.
تم تكريم بدرية السيد فى الدورة الحادية عشرة لمهرجان الأغنية بالإسكندرية، وهو التكريم الذى حظيت به بعد وفاتها، وكانت الدكتورة رتيبة الحفنى استضافتها فى برنامجها «الموسيقى العربية» وقدمت بعض أغانيها المعروفة.
لكن- كما قال الباحث زياد عساف عن بدارة- إنه بالاستماع لأغانيها ورغم جمال صوتها فإنها كانت بحاجة لكتاب أغانى من نوعية عبدالرحمن الأبنودى وصالح جاهين ومرسى جميل عزيز، لأن معظم من غنت من كلماتهم لم يصلوا لمستوى هؤلاء حتى إن كلمات بعض أغانيها عادية، رغم روعة الصوت فإن هذا غير كفيل بنجاح الأغنية.
وبرغم ما واجهته خلال رحلة حياتها من مصاعب، فقد وصلت بإرادتها وروحها الجميلة إلى قلوب الناس سريعا، ورحلة حياتها التى انتهت بوفاتها متأثرة بمرض عضال بعد اعتزالها، وتزوجت بدارة من السيد محمد حسين عازف الأوكورديون، وأنجبت أربعة أبناء «محمد السيد وإش إش ونازك وميرفت»، وقد افتتحت محلا لبيع المصوغات الذهبية لأحد أبنائها وأطلقت على المحل «بدور» ومازال فى شارع العطارين، ولكن لم تفلح محاولاتها وتم تحويله لبيع الآلات الموسيقية الخاصة بالأفراح والحفلات، وقد اعتزلت وهى فى أوج نجوميتها بعد إلحاح من أحد أبنائها الذى انضم لبعض التيارات الدينية، بأن تتحجب فى زمن الهجوم الشرس لتيار دينى غريب عن المجتمع المصرى والسكندرى تحديدا، وبالفعل اعتزلت الغناء وتفرغت لأداء الحج والعمرة، ولكنها مرضت بمرض عضال وتوفيت بأحد المستشفيات الخاصة.
وهناك اختلاف فى تاريخ وفاتها، فهناك من يقول إنها توفيت27 مايو 1989 ومصادر أخرى تقول إنها توفيت فى عام 1996 بعد أن تركت تراثا فنيا هائلا متمثلا فى مئات الأغانى والمواويل، التى تشكل النصيب الأكبر من التراث الشعبى السكندرى فى مائة عام.