تسعى القاهرة للحفاظ على التوازن فى محيط مشتعل وتتحرك بدبلوماسية وخطوط حمراء لأمنها القومى شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فى 2019 نبه الرئيس السيسى إلى أن المنطقة العربية أصبحت تعانى من تسلسل أزمات يتطلب مواجهة ودعم الدولة الوطنية التحولات الإقليمية تكشف حجم الجهد الذى تبذله الدولة المصرية للتعامل مع السيناريوهات المختلفة وآخرها ما يجرى فى السودان
أمام هذه التحولات الإقليمية والدولية التى تجرى من حولنا، فإن أى مراقب ومحلل لهذه الأوضاع يدرك حجم الجهد الذى تبذله الدولة المصرية، للتعامل مع السيناريوهات المختلفة، وآخر هذه التحولات هو ما يجرى فى السودان الشقيق، حيث الصدام العسكرى بين الجيش الوطنى السودانى، وقوات الدعم السريع والتى تمثل خطرًا يوقف المسارات السياسية، ويضاعف من الأزمة السياسية والإنسانية والاجتماعية، بما يسببه الاقتتال الداخلى من أزمات مضاعفة، على أرواح البشر وممتلكاتهم، فضلًا عن الأزمات الخاصة بالحياة اليومية ونقص الطعام والطاقة والتبعات الاقتصادية، المتعلقة بوقف عجلة التنمية والبنية التحتية، وحياة الشعب السودانى الشقيق.
إغلاق الطرق والحدود وتعليق الطيران، ونقص الإمدادات، وخلق فوضى يصعب فيها تسهيل مرور الإمدادات والسلع، الدولة المصرية انتبهت مبكرًا إلى هذه الأخطار، وعلى مدى سنوات لم يتوقف الرئيس عبدالفتاح السيسى، عن التحذير من الاستسلام للتدخلات الخارجية أو الابتعاد عن صوت العقل، وفى ديسمبر 2019 تحدث الرئيس السيسى فى منتدى الشباب بشرم الشيخ، عن الأحداث التى شهدتها المنطقة خلال عشر سنوات أوجدت حالة من عدم التوازن الأمنى فى الإقليم، وأن المنطقة العربية أصبحت تعانى من تسلسل أزمات، وجدد تأكيده على أنه لا بديل عن استعادة الدولة الوطنية مكانتها، وأن يكون لها جيش واحد ومؤسسات واحدة، لأن وجود السلاح فى أيدى أطراف أو ميليشيات من شأنه أن يعرض الدولة للخطر، ويضر بمسارات التنمية ومصالح الشعوب.
وسط هذه الفوضى، بدأ النظام الإقليمى يفقد توازنه، كل دولة تنكفئ على نفسها، بينما مصر وسط الكثير من التزاحم والتحديات، وجدت وقتًا للعمل داخل محيطها، والحفاظ على التوازن فى محيط مشتعل، بينما الدول الكبرى مشغولة بمنافساتها وكل تكتل له مصالحه.
تحركت مصر بدبلوماسية ثابتة تجاه كل الملفات، بخطوط حمراء لأمنها القومى، وصبر فى الكثير من الملفات، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وواجهت جهات وأطرافًا سعت لتشتيت الانتباه، وظلت تتعامل مع كل الملفات بنفس الترتيب واليقظة، وتأتى الأحداث لتؤكد صحة الرؤية المصرية، فى منطقة مشتعلة كادت تحترق فى صراع لا نهائى.
لا يمكن فهم ما حققته مصر وواجهته إقليميًا ودوليًا من دون النظر إلى تراكمات الأحداث والتحولات خلال عشر سنوات وأكثر، منذ كانت تنظيمات الرايات السوداء تسعى لابتلاع الإقليم وإنشاء بؤر إرهابية، وانتزاع أراض تمثل خناجر فى ظهر الإقليم، فقد تمدد تنظيم داعش وأعلن دولته الوهمية لإعلان دولة الخلافة فى سوريا والعراق، وليبيا تحت سيطرة داعش وتوابع الميليشيات المسلحة، والهدف انتزاع أجزاء من كل دولة عربية لإعلان إمارة لداعش تتواصل مع باقى المراكز.
وشهدت ملفات السياسة والصراع فى المنطقة «تغيرات كيفية» واختلالات، وكانت مصر هى الطرف المنتبه والفاعل والساعى للتعامل مع هذه الملفات المشتعلة من زوايا عديدة، أولها تأمين الأمن القومى المصرى، وفى نفس الوقت السعى لامتصاص التوترات والتعامل بصبر مع كل هذه الملفات، فقد عملت المؤسسات والأجهزة المصرية لتأمين الحدود فى الشرق والغرب والجنوب، وظلت القاهرة طرفًا فاعلًا ومتفاعلًا بحكم الجغرافيا والتاريخ والموقع، من دون أن تتخلى عن استراتيجيتها فى التنمية وعدم التدخل فى أى نزاع، مع دعم وحدة الدول المجاورة، وأن يكون كل شعب طرفا أساسيا فى حل مشكلاته ومواجهة مستقبله، وبالتالى فإن الدولة المصرية تعاملت مع الموقف فى السودان بجدية وبخطوات واضحة منذ البداية، حرصت الدولة المصرية على العمل انطلاقًا من إدراك للوضع فى السودان والاتصال مع كل الأطراف للتأكيد أنها ليست مع أى طرف وقادرة على التواصل مع كل الأطراف، وفى اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أكد الرئيس السيسى، أن ما يحدث فى السودان شأن داخلى ومصر لا تتدخل فى شؤون أى دولة، مع استعداد مصر للوساطة بين الفرقاء، ومواصلة الاتصالات للتأكيد على أمن أبنائنا فى السودان، ولم تتوقف مساعى مصر بين الأطراف المختلفة، الدولية والإقليمية، لوقف الصراع والعودة للمفاوضات.
ووجه الرئيس السيسى نداءً لاستعادة الهدوء والجلوس على مائدة الحوار بين كل الأشقاء فى دولة السودان سواء كان الجيش السودانى أو الدعم السريع، مشددًا على أنه ليس من مصلحة دولة السودان أبدًا ولا المنطقة حدوث اقتتال داخلى بين الفرقاء. وشدد الرئيس السيسى «رأينا خلال السنوات الماضية فى دول أخرى، عندما غاب الحوار وكان الصوت فقط للسلاح، وموجود، لم تشهد هذه الدول الاستقرار ودفعت تكلفة كبيرة جدا من أمنها وسلامتها واقتصادها وفقدت وقتا ثمينا جدًا جدًا كان يتم استثماره فى البناء والتنمية والتعمير».
وجدد الرئيس السيسى التأكيد على أن مصر لا تتدخل أبدًا فى شؤون الدول الداخلية، وهذا موقف ثابت ولا يتغير وأى تدخل إذا لم يكن إيجابيًا فليس من مصلحة هذه الدولة أو علاقات مصر معها، مؤكدًا أنه تحدث مع رئيس جنوب السودان سيلفا كير، وأكد له على استعداد مصر للعب دور وساطة مع الأشقاء فى السودان للوصول إلى هدنة والتفاوض، والاتصالات لا تنتهى مع الجيش السودانى وقوات التدخل السريع لتشجيعهم وحثهم لإيقاف إطلاق النار وحقن دماء السودانيين واستعادة الاستقرار.
وبجانب سعى الدولة لحقن دماء الأشقاء السودانيين، كان التحرك على محور آخر لتأمين المصريين، على الأراضى السودانية، ووضع الخطط اللازمة لإجلائهم إذا لزم الأمر.
ووجه الرئيس أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية «القوات المسلحة والمخابرات العامة والخارجية»، بالعمل على مدار اللحظة وتوفير كل الإمكانيات فى الوقت المناسب لإجلاء المصريين من السودان وتعاملت أجهزة الدولة مع وضع معقد باحترافية، لإعادة حوالى 10 آلاف مصرى من الأراضى السودانية إذا تطلب الأمر ذلك، كما كتب الزميل يوسف أيوب رئيس التحرير التنفيذى، والخبير بشؤون السودان.
والواقع أن هذه التجربة، بقدر ما تثبت قدرة الدولة المصرية على قراءة الملفات، فهى أيضًا تكشف عن حجم ما واجهته مصر من تداعيات، على مدى سنوات، وواصلت قدرتها على الصمود وسط بؤر مشتعلة وإقليم لم يتوقف عن الاشتعال.