استمع الشاعر نزار قبانى إلى المطربة نجاة الصغيرة وهى تغنى لأول مرة قصيدته «ماذا أقول له؟»، فكتب رسالة شاعرية عذبة إلى الكاتب والناقد جليل البندارى نشرها فى «أخبار اليوم»، عدد 1 مايو، مثل هذا اليوم، 1965.
كان نزار دبلوماسيا بالسفارة السورية فى إسبانيا ويترقب غناء هذه القصيدة بعد أن طال انتظاره لها، لأن ملحنها محمد عبدالوهاب كان يرى التمهل فى تقديمها بعد نجاح نجاة فى قصيدة «أيظن» عام 1960 وكان هو ملحنها ونزار مؤلفها أيضا.. «راجع، ذات يوم، 10 إبريل 2023».
استمع نزار إلى الأغنية فانفعل إعجابا، وكتب رسالته التى يبوح فيها بأحاسيسه وهو يسمعها، ووظف مقاطع الأغنية فى الكتابة، فجعل منها قطع أدبية نثرية جميلة.. يقول: «أمضيت ليلة العيد فى منزلى بمدريد أنكش كالعصفور الجائع فى جهاز الراديو بحثا عن الكنز المخبوء فى صوت نجاة وأصابع عبدالوهاب.. مؤشر الراديو مثبت على القاهرة أعصابى مشدودة كحبال سفينة تواجه الدقائق الحاسمة، ويدى كقطعة الجمر على مفتاح الصوت، ودموعى كأمطار البلاد الاستوائية، تتساقط بعنف وباستمرار».
أين منى القاهرة وأين أحبابى فيها؟.. ضجيج الجمهور فى سينما قصر النيل يهدر كموج البحر، ودخان سجائره يختلط دخان سجائرى..إننى أشعر بالحزن.. أشعر بالتمزق.. أشعر أننى سندباد منفى فى كوكب آخر.. ماذا أفعل فى إسبانيا فى مثل هذه الليلة؟.. لماذا لا يكون لى مقعد فى سينما قصر النيل أعانق منه كلماتى بعد خمس سنوات من الرحيل والطواف والغربة، أليست خيانة ألا يحضر الشاعر عرس كلماته، أليس موجعا أن لا أصلى مع المصلين، وأضرع من الضارعين، كيف لا أتمكن من إلقاء زهرة صغيرة على أقدام العظيمين عبدالوهاب ونجاة:
حبيبتى.. هل أنا حقا حبيبته؟.. دموعى تزداد عنفا.. الأمطار الاستوائية تطوقنى من كل جانب.. صوت نجاة يبللنى بقطرات من الضوء والقطيفة.. هنا جريدته / فى الركن مهملة / هنا كتاب معا / كنا قرأناه/ على المقاعد بعض من سجائره/ وفى الزوايا بقايا من بقاياه.
وتستمر نجاة: حبيبتى/ حبيبتى/ حبيبتى/.. ويستمر تساقط شلال القطيفة والكريستال.. إن غرفتى فى مدريد تغرق، الستائر تغرق، وجودى كله يغرق فى هذا الجدول الرائع من الدموع والنار والورد، شعرى أنا قلبى.. ويظلمنى من لا يرى قلبى على الورق.
يا أخى جليل، إن اهتمامك بالقصائد العامية وبالقصائد غير العامية، أصبح من تحصيل الحاصل، فلقد نزل الشعر عن أرستقراطيته ولم يعد متاع النبلاء ونهر الخلفاء، لم يعد الشعر كأس ذهب فى يد أمير، بل أصبح قطعة خبز فى فم كل جائع للخبز والحرية، ونحن إذ نادينا بشعر عامى كلغة الحديث اليومى، فهذا لا يعنى بالطبع الهبوط به إلى ظلمات الأزقة ومستنقع العامية، كل ما نطلبه أن يكون شعرنا فى المرحلة الثقافية التى نحن فيها صورة لهذه الثقافة وانعكاسا لها، إن لغة المثقفين فى جميع البلاد العربية هى القاسم المشترك الصحيح والمادة الأولية التى يجب أن نستعملها فى كل ما نكتب من شعر أو قصة أو نقد أو مقالة، قد لا تكون هذه اللغة الأكاديمية مائة بالمائة، ولكنها على كل حال تشبهنا، إنها جزء من شفاهنا، من حناجرنا، من كتبنا، من جرائدنا، من رسائلنا، إنها اللغة التى نجب بها، ونضحك بها ونبكى بها ونمشط شعر حبيباتنا بها.
غدا/ إذا جاء أعطيه رسائله/ ونطعم النار أحلى ما كتبناه / أما كسرنا كئوس الحب من زمن/ فكيف نبكى على كأس كسرناه/ رباه/ أشياؤه الصغرى تعذبنى/ فكيف أنجو من الأشياء/ رباه/ مالى أحدق فى المرآة أسألها/ بأى ثوب من الأثواب ألقاه/ أأدعى أننى أصبحت أكرهه/ وكيف أكره من فى الجفن سكناه/ وكيف أهرب منه/ إنه قدرى/ هل يملك النهر تغييرا لمجراه/ أحبه/ أحبه/أحبه/ لست أدرى ما أحب به/ حتى خطاياه ماعادت خطاياه/ الحب فى الأرض بعض من تخيلنا/ لو لم نجده لاخترعناه.
وحين تصل نجاة إلى «ألف أهواه» يكون عبدالوهاب قد بلغ قمة إعجازهما، لم أسمع فى حياتى نهاية موسيقية كهذه النهاية التى تشبه الترديد الذى نقوله فى صلواتنا حين نقف أمام الله، هذه هى أحاسيسى وأنا أستمع إلى «ماذا أقول له؟» أنقلها إليك كما عشتها وحدى بين ستائرى ونارى ووردى ونبيذى فى مدريد.
ولست أشك لحظة فى أن الأغنية الجديدة تجاوزت «أيظن» بمراحل لأن عبدالوهاب دخل فى جلد الكلمات ولحنها، وأحس بكل نقطة وكل فاصلة من القصيدة، إن عبدالوهاب هو العبقرية الوحيدة فى عصرنا التى استطاعت أن تخترق جدار الصوت، كما استطاع أن يهدم الحدود بين الكلمة المكتوبة والكلمة المغناة، أما نجاة الصغيرة الكبيرة فماذا أقول لها؟ وماذا أقول عنها؟.. إن شعرى يتحول دائما على شفتيها إلى ما يشبه الصلوات، إن صوت نجاة يختصر الأنوثة كلها، ونساء الشرق كلهن يختبئن فى أوتار حنجرتها الحريرية».