يعتبرالإفتاء الجماعيمن أهم المحاور والركائز التى تقوم عليها صناعة الفتوى، والفتوى الجماعية ليست أمرًا وليد عصرنا، بل هى منهج كان يسير عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا يحافظون على هذا الأمر باعتباره منهجية تؤدى إلى الفتوى الصحيحة، حيث إنه كلما كان هناك أكثر من شخص يتحاور ويتشاور للوصول إلى الفتوى الصحيحة الصائبة كان ذلك أبعد عن الخطأ وهوى النفس، يقول ابن حمدان: «يستحب أن يقرأ فى الورقة على الفقهاء الحاضرين الصالحين لذلك، ويشاورهم فى الجواب، ويباحثهم فيه، وإن كانوا دونه وتلامذته؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح».
وقالت دار الافتاء فى تقرير لها، أن منهجية المشاورة فى الفتوى كانت حاضرة فى أذهان السلف الصالح رضوان الله عليهم، ومارسوا هذا تطبيقًا عمليًّا كما أُثر عنهم، فقد سار على هذا النهج أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الراشدين، فقد أورد البيهقى فى سننه عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضى الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر فى كتاب الله، فإن وجد ما يقضى به قضى به بينهم، فإن لم يجد فى الكتاب نظر هل كانت من النبى صلى الله عليه وسلم سنة فيه، فإن علمها قضى بها، وإن لم يجد خرج فسأل المسلمين، فقال: أتانى كذا وكذا فنظرت فى كتاب الله وفى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجد فى ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبى صلى الله عليه قضى فى ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا: نعم قضى فيه بكذا وكذا. فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتابعت: قال جعفر: وحدثنى غير ميمون أن أبا بكر رضى الله عنه كان يقول عند ذلك: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم. وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.
الإفتاء الجماعى وفكرة التخصص:
نظرا لما تتسم به نوازل هذا العصر من التعقيد فإنه يبقى أفضل حل لهذا الإشكال هو الإفتاء الجماعى، الذى يجمع بين الخبير المتخصص فى مجال القضية والمفتي؛ لتباحث النازلة.
والإفتاء الجماعى هو من أفضل الحلول لإشكالية التعقيد العلمى فى الإفتاء المعاصر، وخاصة إذا أضفنا إلى ذلك الإفتاء الجماعى التخصصى، بحيث يقسم المفتون داخل المجامع والمؤسسات والهيئات الإفتائية إلى مجموعات إفتائية نوعية متخصصة فى باب معين أو مجال معين من العلم، وهذا مبنى على فكرة الاجتهاد فى باب خاص أو ما اصطلحوا عليه بتجزؤ الاجتهاد، وقد أشار الإمام الزركشى رحمه الله إلى منهج الإفتاء فى باب خاص فقال: «أما المجتهد فى حكم خاص فإنما يحتاج إلى قوة فى النوع الذى هو فيه مجتهد، فمن عرف طرق النظر القياسى له أن يجتهد فى مسألة قياسية وإن لم يعرف غيره، وكذا العالم بالحساب والفرائض».
إحالة الفتوى إلى الخبراء فى التخصصات المختلفة:
ونعنى بالخبراء هنا المراجع المتخصصة فى غير العلوم الشرعية، والذين نحتاج إليهم لتوضيح بعض الجوانب الضرورية التى يعتمد عليها فى بيان الحكم الشرعى.
ومن الأمثلة على ذلك أن يُسأل الأطباء المختصون عما إذا كان المرض الذى أصيب به المستفتى يضر الصوم بصاحبه أم لا؟ أو أن يُسأل الكيميائيون والصيادلة عما إذا كان أنواع الكحول جميعها مسكرة أم لا؟ من أجل الحكم بنجاستها مثلًا؟ أو بالرجوع إلى علماء الفلك حول قضية ثبوت رؤية الهلال، وهل تلزم رؤيته فى بعض البلاد أم سائر البلاد؟.
إن هؤلاء الخبراء يعدون مرجعًا مهمًّا للفقهاء من أعضاء هيئات الفتوى؛ إذ يبنى هؤلاء الفقهاء الكثير من الأحكام الشرعية على الرؤية التى يعرضها الخبراء.
إلا أن هؤلاء الخبراء لا ينبغى أن يكونوا محكمين فى الحكم الشرعى، الذى يعتمد على دراية فقهية، إنما يقتصر دورهم على توضيح الأمور المتعلقة باختصاصهم العلمى، والذى يعد أساسًا للحكم الشرعى الذى يصدره أعضاء هيئة الفتوى بناء على القواعد الواجب التزامها من أسس الاجتهاد فى الحكم الشرعى.