أقلعت «المحروسة» من ميناء الإسكندرية وهى تحمل الخديو إسماعيل، تحيط بها ست مدرعات حربية من قطع البحرية المصرية، ودوت المدافع من قلاع المدينة لتحية الركب الملكى، الذى كان متجها إلى أوروبا ليدعو بشخصه عظماءها والجالسين على عروشها لافتتاح قناة السويس فى 17 نوفمبر 1869، وحتى لا يترك للسلطان العثمانى فرصة توجيه هذه الدعوة واستغلال هذه المناسبة الفذة لحسابه، حسبما يذكر الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».
كان نوبار باشا أهم نظار الخديو إسماعيل ورئيس حكومته من 1878-1897 فى أوروبا وقتئذ، ويذكر فى مذكراته أن خاطره انشغل بتلغراف تلقاه من إسماعيل يخبره فيه بوصوله قريبا إلى «البندقية»، واقترح عليه اصطحابه من أجل القيام بجولة أوروبية لدعوة سادة وملوك أوروبا لحضور حفل افتتاح قناة السويس، ويضيف: «جهز إسماعيل برنامج سفره بنفسه وأبرق لى بتفصيله تلغرافيا، السفر من الإسكندرية يوم كذا، الوصول إلى فينسيا يوم كذا، الإقامة يومين فى المدينة، اليوم الثالث الرحيل فى الساعة كذا، الوصول إلى فلورنسا يوم كذا الساعة كذا، الإقامة ثلاثة أيام، اليوم الرابع رحيل الساعة كذا، الوصول إلى فينا يوم كذا، ثم باريس، كل شىء كان معروفا مسبقا محسوبا باليوم والساعة».
مضت القافلة من الإسكندرية، ويذكر «الحفناوى» أنها فى طريقها وقفت فى جزيرة كوروفو لكى يزور إسماعيل الملك جورج الثانى ملك اليونان، ووجه إليه الدعوة، ويقول الحفناوى: «جادت المكارم العلية بمائة ألف فرنك للمهاجرين من سكان جزيرة كريت، وكان ذلك مظهر تحد لتركيا التى أوشكت الحرب أن تقوم بينها وبين اليونان بسبب تلك الجزيرة، ومن هناك سار الركب إلى إيطاليا»، ويذكر نوبار أن إسماعيل وصل إلى فينيسيا، واستقبل فيها استقبال الملوك، وفى اليوم التالى أقيم على شرفه حفل ساهر كبير على ضفاف القناة الكبيرة، كان حفلا خياليا، حيث الأجواء الخلابة وسط بريق الأضواء التى كانت تنبعث من نافورات ومصابيح فينسيا، بينما تمايلت وتناغمت أصوات الموسيقى والألحان مع ميدان سان مارك».
فى فلورنسا، وحسب رواية نوبار: استشاره إسماعيل فى موضوعين يفكر فيهما، الأول، نيته فى تزويج ابنه وولى عهده توفيق من أميرة أوروبية، والثانى، أنه بعد أن يكون قد رتب كل شىء فى مصر سيتنازل عن الحكم له، وسيقوم على رغم ذلك بمتابعة كل شىء، وإذا أصبح كل شىء على ما يرام سيصفق له من بعيد، وإذا لم تسر الأمور على ما يرام فسيعود إلى السلطة ويأخذ مكانه، ويؤكد نوبار: «الحقيقة أنه لم يتحدث أبدا فى هذين الموضوعين، ولم أسمع أبدا من أى شخص بأنه ألمح له أو تحدث معه بشأنهما، مما جعلنى أعتقد أن الوالى لم يتحدث مع أى شخص غيرى».
ذهب إسماعيل إلى فيينا، ثم إلى برلين عاصمة ألمانيا، ويذكر نوبار: «فى برلين بهرت من روح وعظمة وسلوك ولى عهد ألمانيا آن ذاك الكونت بسمارك».. يضيف: «كان الوالى «إسماعيل» سعيدا بالاستقبالات الملكية التى أقيمت له فى كل مكان، ثم أنهى أخيرا رحلته إلى باريس يوم 12 يونيو، وفيها أيضا أقيمت حفلات استقبال لا تقل إبهارا عن سابقاتها».
كانت مصر تابعة للدول العثمانية، وحسب «الحفناوى» فإن تحركات إسماعيل أهاجت «عالى باشا» صدرها الأعظم، فبعث فى منتصف يونيو بمنشور إلى جميع السفراء العثمانيين، يأمرهم فيه بالاحتجاج على عمل إسماعيل، واعتباره خارجا على حدود اللياقة، وادعى المنشور أن الدعوة إلى حضور حفلات افتتاح قناة السويس يجب أن توجه باسم السلطان العثمانى، لا باسم الخديو، واستأجر الباب العالى بعض الصحف والأقلام الرخيصة للتهجم على عاهل مصر، ولكن إسماعيل وجد أقلاما وصحفا كالت الصاع صاعين، ويضيف «الحفناوى» أن الباب العالى أرسل بكتاب شديد اللهجة إلى إسماعيل حول ما فعله، لكنه أرسل جوابا مع سفير قبله فيه نفحة من نفحاته.
يذكر «الحفناوى»: «أجاب الدعوة الخديوية، أوجينى امبراطورة فرنسا، وفرنتز جوزيف امبراطور النمسا، وفردريك ويلهلم ولى عهد التاج البروسى وقرينته ابنة الملكة فكتوريا، وهنرى أمير هولندا، والأميرة قرينته، ولويس أمير الهس، والآخرون أوفدوا سفراءهم وكبار رجال دولهم، وأما السلطان العثمانى، فلم توجه إليه دعوة، ولا شاء أن يدعى، ولم يندب أحدا من رجاله لتمثيله، بل قام سفير إنجلترا إلى جانب حضوره نائبا عن بلاده بإعلان نيابته عن السلطان فى حفل افتتاح القناة، ولم يفت إسماعيل أن يدعو رجال العلم ورجال الأدب والفنون، وأصحاب التجارة الكبرى، وكتاب الصحف العالمية ومراسليها، وقيل إن عدد المدعوين بلغ ستة آلاف نسمة تكلفت الدولة المصرية بنفقات سفرهم فى الذهاب والإياب، وأجور الفنادق بمصر وكل ما يلزمهم».