نقلا عن العدد اليومى...
غالبا ما يصادف الإنسان حدثا أو أحداثا كبيرة تغير مجرى الحياة تماما، وطريقة التفكير، ولا يستطيع العودة للحياة بعدها كما كانت، ربما أقربها حادثة فقدان الطائرة المنكوبة، وسلسلة الحرائق المتتابعة التى حدثت مؤخرا، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية التى تحدث بصورة مفاجئة أو متكررة فى بعض المناطق المختلفة حول العالم.. هذه الحوادث تكون ذات طابع خاص، لأنه فى مثل تلك الظروف لا تحدث الوفاة بشكل فورى مباشر، إنما تسبقها لحظات غاية فى القسوة، تقترب فيها الضحية من النهاية لتلقى حتفها بعد معاناة عصيبة، أو تنجو، لكن بعد أن تترك التجربة بصمتها العميقة فى نفس وذاكرة من عايشها.
تقول الدكتورة أمل عطوة، أخصائية الطب النفسى: «هذه الدقائق ما قبل الموت أو ما يطلق عليها تجارب الموت الوشيك، غالبا ما يحدث فيها ما يشبه شريط السينما.. تمر فيها حياة الإنسان أمام عينيه فى لحظات الهلع التى يعايشها، وفى هذه الدقائق القليلة يحدث ما يشبه إعادة تقييم لأشياء كثيرة فى حياة الإنسان.. هذه الصدمات الهائلة ينتج عنها فى أحيان كثيرة تغيير صارخ فى شخصية الإنسان، وتقييمه لدوره فى الحياة».
مواقف الناجين من الموت
وتوضح الدكتورة أمل عطوة أن الناجين من هذه الكوارث تختلف استجابتهم تبعا لعوامل كثيرة، ولطبيعة شخصياتهم قبل الحادث، ووفقا لوجود الدعم النفسى أو عدمه بعد الحادث أيضا، لكنّ هناك عاملا مهما فى تحديد مصير هؤلاء الأشخاص، هو الإحساس بفقد السيطرة إما بشكل جزئى أو بشكل تام فى أثناء الحادث، فالناجون من الحوادث الكبرى يتمتعون بصحة نفسية أعلى إذا كانوا يؤمنون خلال الحادث أن باستطاعتهم النجاة، وأن لديهم وسائل للهروب من الموت، أما الذين كانوا فى موقف مصاحب بالإحساس بالفقد التام لأى وسيلة للنجاة فإنهم يعانون أكثر من الاضطرابات النفسية.
15% إلى 30% يعانون من اضطراب التوتر الحاد
تشير «عطوة» إلى أن بعض الدراسات على الناجين من حوادث الطيران قد توصلت إلى أن من 15% إلى 30% أو أكثر منهم يعانون من اضطراب التوتر الحاد خلال ثلاثة أيام بعد الحادث، وقد تمتد الحالة إلى شهر، أما إذا زادت المدة على شهر فهذا يقودنا إلى تشخيص «كرب ما بعد الصدمة»، وفى الحالتين توجد عدة أعراض، من بينها الأفكار التكرارية المتطفلة، كالذكريات المتكررة المتعلقة بالحادث، والأحلام المزعجة المتكررة.. فلاش باك يكرر الحدث، ويجعل الإنسان يشعر كما لو كان يعيش الحادث من جديد، توتر نفسى وعضوى عند التعرض لأشياء تذكر الضحية بالحادث، أيضا يحاول الشخص بذل جهد متعمد لتجنب الذكريات والأفكار والمشاعر والأشخاص، والمواقف المتعلقة بالحادث.
إحساس بالذنب وتقييم سلبى للنفس
وتضيف «عطوة» أنه قد تحدث تغييرات مزاجية سلبية وأخرى فكرية، وقد تنسى الضحية الحادث فى محاولة للهروب من التجربة العصيبة، وربما يكون هناك تقييم سلبى للنفس وللعالم ككل، وأحيانا شعور بالذنب، أو إحساس بأن الله يعاقبه على ذنوبه بما حدث له، وشعور بالهلع والخوف والاكتئاب، وعدم القدرة على الانخراط فى الحياة من جديد.
وتشير إلى أن الاستجابات الانفعالية لدى الضحية تتغير أيضا، وتتميز بالعصبية والغضب والفزع السريع، وعدم القدرة على التركيز، بالإضافة إلى بعض المحاولات لتدمير النفس من خلال سلوكيات مختلفة. مثل القيادة المتهورة، أو استخدام الكحوليات أو المواد المخدرة.
وتشرح «عطوة» أن فى أوقات الكوارث نجد أن معظم الناس يتكاتفون مع الضحايا ومع أسرهم، حتى لو كانت هناك خلافات سابقة معهم، فنجد الجيران فى حالة اندلاع الحرائق- على سبيل المثال- يسارعون إلى المعاونة على إطفاء الحريق، أو إيجاد مأوى سريع للمتضررين من الحادث، ومساعدتهم فى إعادة إعمار منازلهم، أو المساهمة فى إقامة محالهم التجارية مرة أخرى، وذلك لأنه فى هذه الحالة تتنبه غريزة الإنسان الجمعية فى الحفاظ على نوعه البشرى.
ارتفاع هرمون الحب غريزيًا Survival of the species
وتؤكد «عطوة» حقيقة علمية، هى أنه فى مثل هذه الظروف يحدث Survival of the species، أى ارتفاع غريزى فى مستوى هورمون الأوكسيتوسين، وهو ذاته هورمون الحب والتعاطف والكرم المادى والإحساس بالآخر، حتى إذا استقرت الأمور وعادت الحياة لحالتها الطبيعية نوعا ما يهبط مستوى الهورمون لمعدلاته الطبيعية، وتعود العلاقات كسابق عهدها، بل حتى الخلافات والمشاحنات تعود كما كانت قبل وقوع الكارثة.
يقول الدكتور جمال فرويز، أخصائى الطب النفسى: الشخصية المصرية بطبعها عنيدة، وتواجه مثل هذه الكوارث والشدائد بتماسك وعناد أكثر من التأثر سلبا.
ولفت إلى أن ضحايا الكوارث يعانون من آثار ما بعد الصدمة فى أعراض محددة، مثل مداهمة الكوابيس المزعجة، والتلعثم فى الحديث، وخفقان فى القلب، وتنميل ورعشة فى الأطراف، ومشاكل فى الفقرات القطنية والعنقية والمعدة والقولون، خصوصا مع اجترار الذكريات المؤلمة.
إجراءات ما بعد وقوع الكارثة
وشدد «فرويز» على أهمية عدم تذكير الضحية بأحداث الكارثة؛ لتجنيبه اجترار تلك الذكريات العصيبة، وأن نتحدث معه بهدوء، وتوجيه الحوارات والأحاديث نحو المستقبل وليس الماضى، لافتا إلى خطورة الضغط على الضحية للحصول على السبق الصحفى أو الإعلامى، لأن هذا الضغط بالتأكيد يترك أثره غائرا فى نفسه، ويؤثر على شخصيته وتوازن حياته على المدى القريب والبعيد للأسف.
95% من الضحايا يعانون من مشكلات نفسية
ويشير «فرويز» إلى أن 95% من ضحايا الكوارث يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، وبعض المشكلات النفسية، مثل الاكتئاب والرهاب الاجتماعى، ولمن لديهم استعداد لأمراض نفسية معينة تبدأ هذه الأمراض فى الظهور، مثل الفصام، والوسواس القهرى.
ولفت «فرويز» إلى أهمية دور رجال الدين فى مثل هذه الظروف فى تقوية الإيمان، وتوجيه المجتمع نحو التكافل والتكاتف فى مثل هذه الظروف، والتعاون على البر بمساعدة الضحايا، ودعمهم نفسيا وماديا لتجاوز الأزمة، وتخفيف آثار الصدمة.
كرب ما بعد الصدمة
يوضح الدكتور أمجد خيرى كامل، الاستشارى النفسى، أن «كرب ما بعد الصدمة» أو «Post Traumatic Stress Disorder»، عادة ما يأتى نتيجة حادث شديد، يحمل تهديدا خطيرا لأمان وسلامة الشخص أو أحد أقربائه أو أحبائه، مثل الكوارث الطبيعية «تسونامى، إعصار ساندى فى أمريكا»، أو حوادث مثل سقوط الطائرة المنكوبة، أو اعتداء إجرامى أو اغتصاب، أو انهيار عقار وموت أفراده.
فقدان الذاكرة حيلة دفاعية لا شعورية
يوضح الدكتور أمجد خيرى، أخصائى الطب النفسى، أن ظهور الأعراض على أهالى الضحايا، وأحيانا على أقاربهم وأحبائهم، يكون فى صور متباينة تباينا شديدا، منها مثلا: فقدان الذاكرة amnesia، وهى من أهم الحيل الدفاعية اللاشعورية التى تحدث عند الشدائد، وقد يستمر هذا الأمر لساعات أو أيام أو شهور، وأحيانا سنوات عديدة، وقد قدمت الدراما فيلما يشرح هذا المرض تحت مسمى «الليلة الأخيرة»، قامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة، وأحمد مظهر، وحسين مرسى.
تحول الألم النفسى إلى ألم عضوى
ويشير «خيرى» إلى أنه فى بعض الأحيان يصاب المريض بما يسمى بـ«الاضطرابات التحويلية» أو «Conversion disorders»، بمعنى أن يتحول القلق والألم النفسى إلى عرض عضوى أو جسدى، فيعبر الجسد من خلال عن إحساسه بالألم، مثل فقدان الصوت «الحبسة» Aphonia، إذ يفقد فيها المريض القدرة على الكلام تماما، ويعبر عن نفسه بالإشارة أو الكتابة، وأحيانا يتحول إلى مجرد همس.
ويقول «خيرى»: «أحيانا يصاب الشخص بشلل هيستيرى، سواء فى أحد الأطراف أو الساقين، وقد تصاب جميع الأطراف، وبالطبع هناك فارق كبير بين هذا الشلل الهيستيرى المؤقت والشلل العضوى، وقد يصاب المريض بنوبات هيستيرية تتراوح بين الإغماءة البسيطة والتهيج العصبى، مع تحطيم المريض كل ما أمامه فى نوبة مشابهة للنوبات الصرعية من فرط شدتها!
ويضيف «خيرى» أنه قد يأتى الكرب فى صورة نوبات من الهلع panic، حيث يشعر المريض بخفقان شديد «زيادة فى دقات القلب»، وألم بالصدر، وإحساس بالاختناق والدوار، وإحساس بتبدد الشخصية أو الغربة عن الواقع، أو تعذر إدراك الواقع، بالإضافة إلى شعور المريض بالصدمة بدنو الأجل، أو فقدان التحكم فى النفس، وربما الجنون!
مدارس علاجية لتخطى الصدمة
ويعقب «خيرى» قائلا: بالنسبة للعلاج فهو متفاوت وفقا لصعوبة الحالة وشدة الصدمة، فهناك العلاج الدوائى بالمهدئات الصغرى، مثل البنزوديازبين، إلى جانب مضادات الاكتئاب التى لها خاصية مؤثرة على الناقل العصبى «السيروتونين»، وقد نلجأ أحيانا إلى الإيحاء بواسطة المنبهات الكهربائية على المخ، أو على الطرف المشلول، خاصة فى حالة الشلل أو انعدام الإحساس، أما مدرسة التحليل النفسى فلها مسلك آخر، هو جلسات العلاج النفسى للكشف عن العوامل الدفينة اللاشعورية المسببة للأعراض، ويمكن أن تتم تحت تأثير التخدير من خلال حقنة فى الوريد «أميتال الصوديوم»؛ وذلك لتسهيل عملية التفريغ النفسى.
أما المدارس العلاجية الحديثة فتعالج بجلسات العلاج المعرفى السلوكى، والعلاج المعرفى الانفعالى، وتعتمد على تغيير الوعى وأفكار الفرد تجاه ذاته والعالم الخارجى، مما يودى إلى تغير الوجدان والمشاعر، وبالتالى تغيير السلوك، وهناك أيضا مجموعات الدعم النفسى التى تقدم لمجموعات لها نفس المشكلة، مجموعة مثلا تعانى من كرب ما بعد الصدمة.
العلاج بالرقص والموسيقى
ولفت «خيرى» إلى وجود طرق علاجية أخرى مختلفة طويلة المدى، مثل العلاج بالرقص، وهو غير منتشر فى مصر، والعلاج بالعمل، والعلاج بالموسيقى، وجلسات التنويم الإيحائى، بالإضافة إلى أنشطة علاجية مختلفة ومتنوعة تهدف إلى تنشيط كل القدرات المعرفية والوجدانية والمهارية، تُعطى بجرعات متزايدة تدريجيا بحسب الخطة العلاجية المتكاملة، حتى يستعيد الجسد نشاط إيقاعه، ويستعيد الوعى، ويقظة تواصله، وبالتالى يستطيع المريض تجاوز صدمته ومحنته، والتغلب على انسحابه من المجتمع، ليصبح قادرا على الحب والعمل والتكيف مع المجتمع.
كوارث فى تاريخ مصر
12 أكتوبر 1992
زلزال القاهرة الذى بلغت قوته 5.8 درجة على مقياس ريختر، وتسبب فى وفاة 545 شخصا، وإصابة 6512 آخرين.
31 أكتوبر 1999
سقوط طائرة بوينج قبالة السواحل الأمريكية على متنها 217 شخصاً.
20 فبراير 2002
حادث احتراق قطار الصعيد، وتفحم جثث المسافرين، وراح ضحيته أكثر من ثلاثمائة وخمسين مسافرا.
2 فبراير 2006
حادثة غرق عبارة «السلام 98» تسبب فى مقتل أكثر من 1000 شخص.
17 نوفمبر 2012
حادث اصطدام قطار منفلوط بحافلة مدرسية لمعهد نور الأزهر الخاصة، راح ضحيته نحو 50 تلميذا، إضافة إلى سائق الحافلة، ومُدرّسة كانت برفقة التلاميذ.
31 يناير 2016
حادث تصادم سيارة نقل بقطار فى مزلقان البليدة بالعياط صباح، حيث كانت السيارة النقل تقل عمالا، وأدى الحادث لوفاة 6 أشخاص وإصابة 3 آخرين.
المساندة النفسية والاجتماعية للناجين
تقول الدكتورة أمل عطوة، أخصائية الطب النفسى: الناجين من تجارب الموت الوشيك، سواء كانت حوادث الطائرات أو الحرائق، يجب أن يحصلوا هم وعائلاتهم على الدعم والمساعدة والمساندة النفسية، بدءًا من التقييم المبدئى للحالة النفسية على مستوى المشاعر والمستوى الفكرى، والتأكد من وجود دفاعات نفسية سليمة، وتقييم الحالة الصحية، وفحص الإصابات الجسدية، وتقييم الحالة الاجتماعية للناجين، مع الأخذ فى الاعتبار أن التغلب على هذه الأزمات هو عملية طويلة على المستوى الزمنى، وليست مجرد علاج ليوم أو يومين، وأن الوضع يتطلب الكثير من الفهم والصبر والتعاون، حتى يستعيد الناس مستوياتهم الوظيفية، وحياتهم الطبيعية كما كانت قبل الأزمة. وربما يخرج الضحايا من هذه التجربة بفهم أكبر للحياة، وبطرق أفضل للتعامل مع معطياتها، سواء فى الشدة أو فى الرخاء.