أسهب الكاتب الصحفى مصطفى نبيل، فى الحديث عن «راهب الجغرافيا» الدكتور جمال حمدان، للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل بمكتبه، ثم قال له: «جمال يريد أن يراك»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالله السناوى، فى كتابه «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز».
كان مصطفى نبيل، وحده الذى يستطيع فتح صومعة «حمدان» وقتئذ، بالإضافة إلى أسرته، وحسب «السناوى» فإنهما وصلا إلى شقة حمدان بالدقى، وطرق مصطفى الباب بالطريقة المتفق عليها معه، ولم يستجب أحد، فاقترح مصطفى أن يعودا إليه فى يوم آخر، وخرجا إلى الشارع، لكن «هيكل» التقط حجرا صغيرا وقذفه على شرفة الشقة التى تقع فى الطابق الأرضى لعلها تنبه الرجل، وهو ما حدث بالفعل، وكان اللقاء الأول.
لم يذكر «السناوى» ولا «هيكل» فى أى عام جرى اللقاء الأول..كتب «هيكل» عن شخص وقيمة حمدان فى مقدمته لكتابه «أكتوبر السلاح والسياسة» الذى أهداه إليه، وذكر قصة آخر لقاء بينهما قبل نحو عام من وفاته فى 17 أبريل 1993، قائلا: «كان جمال حمدان إنسانا بالغ الحساسية، شديد الكبرياء، وزادت على ذلك أخيرا مسحة حزن ضغط انطباعها على قسمات وجهه، وشاعت فى نبرة صوته، وكما حاولت دائما فقد حاولت فى مكتبى تلك المرة أن أقنعه بالخروج من دير العزلة إلى دنيا الناس، ولم يقتنع مصرا على أنه اعتزل حركة التيار إلى الأمام، فكيف يعود والحركة معاكسة سواء وراء أو إلى أسفل؟!».
كان اللقاء الأول وبالتقريب فى 1979 وربما فى أبريل أو بدايات مايو، بدليل رسالة «هيكل» إلى «حمدان» المكتوبة على أوراقه الرسمية بتاريخ، 28 مايو «مثل هذا اليوم» 1979، وكانت بين أوراق أهداها اللواء عبدالعظيم حمدان إلى مكتبة الإسكندرية، تخص شقيقه بعد رحيله، ويذكر نصها الكاتب الصحفى أيمن الحكيم فى كتابه «رسائل لها تاريخ».
كتب «هيكل» فى رسالته: «عزيزى الدكتور جمال حمدان، لم أتجاسر هذه المرة أن أطرق بابك على غير موعد، وهكذا فإنى أكتب إليك لأقول إننا عدنا إلى القاهرة بعد غياب أسابيع، وكما اتفقنا قبل أن أسافر فإنى أترك لك اختيار الوقت الذى تراه مناسبا لكى نلتقى مرة أخرى، ولست أعرف ما هى المواعيد المناسبة لك فى الأسبوع المقبل الذى يبدأ من السبت الأول من يونيو، لكن سوف يسعدنى إلى أبعد حد أن أسمع منك، ومع التحية أرجوك أن تقبل صادق الود والتقدير، التوقيع محمد حسنين هيكل».
تكشف الرسالة عن طلب «هيكل» موعدا للقاء ثان مع «حمدان»، لكن ماذا عن اللقاء الأول؟ يجيب «هيكل» لـ«السناوى» أنه سأله فى شقته: «لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين والمعنيين بالشأن العام؟! لماذا تفعل ذلك بنفسك وأنت الآن مؤثر لحدود لا تتصورها فى التفكير العام، أنت تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة فى الخلاء، لكنك منعزل فى فوضى»، وطلب «هيكل» أن ينتقلوا لمكان آخر للحوار، وذهب الثلاثة إلى فندق شهير بالدقى يطل على النيل.
يذكر «السناوى»، أن الحوار بدأ بلطف إنسانى من «حمدان» قائلا لـ«هيكل»: «إنك تتصرف كلورد إنجليزى رغم صداقتك لجمال عبدالناصر»،مشيرا إلى سيجار فى يده يشعله بثقاب، ابتسم «هيكل» لملاحظته، سائلا عما إذا كان يريد أن يدخن سيجارا آخر يحتفظ به، وأخذ حمدان ينفث دخانه فى الهواء ناظرا إلى جريان نهر النيل، والحوار يتدفق بعمق، تدفقت تساؤلات «هيكل»: «ما الذى جرى للمكان وعبقريته؟ وكيف وصلنا إلى هذا؟ إلى أين حركة التاريخ ذاهبة فى هذا الموقع من العالم؟»، أجاب حمدان: «حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحيانا إلى أسفل، شهدنا انقلابا لأنه كان بين السكان من لم يقدر ولم يرع حرمة وحق المكان».
وحسب شهادة مصطفى نبيل للسناوى، سأل: «كيف تسكت يا أستاذ هيكل على ما يجرى فى مصر؟»، أجاب «هيكل»: «وماذا تريد أن أفعل»: رد «حمدان»: «لا تقل لى ما تردده، أنك مجرد كاتب صحفى فهذا غير صحيح، أنت زعيم سياسى يسلم بزعامته كثيرون، فكيف لا تقود الشعب فى ثورة لإسقاط المعاهدة المصرية الإسرائيلية، خصوصا أنك تتمتع بالثقة وبميزات لا يتمتع بها سواك، ولديك تجارب ومعرفة عميقة بالمسرح الدولى والأوضاع المحلية، عادة لا يتقن الحديث من يحترف الكتابة، ولكنك تتقن بالوقت نفسه الكتابة الراقية والحديث المقنع، وعادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق فى الكليات، ولكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معا، وعادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العملية ولا يتقنها، وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة عملية كبيرة، وعادة ما يكون المفكر السياسى غير محترف السياسة وممارساتها، لكنك مفكر سياسى فى ذات الوقت، فلماذا لا تقود أهل مصر فى طريق الخلاص؟».
أجاب «هيكل» عن فيض تساؤلاته، ثم قال: «لقد جئت إليك حتى أسمع منك، ما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسى؟ ولماذا رحب البعض بهذه الاتفاقية، قال «حمدان» فى كلمة كالرصاص: «إنه الطغيان».. وتوالت اللقاءات.