كانت الساعة الحادية عشرة صباح 9 يونيو، مثل هذا اليوم، 1949 حين ذهب مندوب الملك فاروق ليعزى أسرة نجيب الريحانى فى وفاته يوم 8 يونيو 1949، وفقا لمجلة «آخر ساعة» فى تحقيقها «نجيب الريحانى الذى صنع من الممثل إنسانا محترما»، عدد 764، 15 يونيو 1949، للكاتب الصحفى صلاح ذهنى.. «راجع، ذات يوم، 8 يونيو، 2023».
تذكر «آخر ساعة»، أنه فى عصر 9 يونيو سار موكب الجنازة، عربة تحمل نعشا، وخلف النعش مندوب جلالة الملك نيابة عن مولاه، وخلفه وعلى جانبى الطريق وقف الشعب فى حزن وجلال يودع فى حرارة الرجل الذى صنع شيئا، صنع للشعب فنا ومجدا ولزملائه مكانة.
كانت الأحزان جامعة على فقدان «فنان أصيل، مؤمنا بفنه ورسالته، وكوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه»، حسبما يذكر رفيقه ومؤلف مسرحياته بديع خيرى فى مقدمته لـ«مذكرات نجيب الريحانى»، وإذا كان التقدير الملكى بدا فى حضور مندوب الملك للجنازة، فإنه هو يفتخر فى مذكراته بإعجاب سعد زغلول به، قائلا: «إذا كنت أفخر بشىء، فهو ما كنت أحظى به من تقدير الزعيم الخالد سعد زغلول الذى كان يتفضل بتشريف حفلاتى، والتردد باستمرار على مسرحى لمشاهدة التمثيل، وإظهار الإعجاب بين وقت وآخر».
يكشف فى مذكراته عن ربط مسرحه بالقضية الوطنية، يقول عن مسرحيته «اش» تأليف بديع خيرى، وتلحين سيد درويش، وكانت وقت تأليف سعد زغلول للوفد المصرى لمؤتمر الصلح فى فرنسا: «انتهزت هذه الفرصة، وضمنت رواية «اش» لحنا تلقيه طائفة من سياس الخيل، فى ختامه : «لا تقول نصرانى ولاد يهودى ولا مسلم ياشيخ اتعلم، اللى أوطانهم تجمعهم، عمر الأديان ماتفرقهم»..يضيف: «لم أقف عند هذا الحد بل ساهمت فى التبرع المادى، فدفعت لخزينة الوفد مبلغا شكرنى من أجله المرحوم فتح الله بركات».
كانت «الكوميديا» لون مسرحه بتصميم الجمهور.. يقول بديع خيرى: «أجبره جمهوره على السير فى الاتجاه الكوميدى، كان يحب الدراما، ربما بسبب الظروف القاسية التى مرت به، وكان على قدر مرحه وفكاهته يعاوده الحزن فى فترات متقطعة لمأساة أصغر أخوته «جورج الريحانى» الذى اختفى قبل موت نجيب بسنوات طويلة، وظل اختفاؤه لغزا غامضا تكتنفه الشائعات، فمن قائل أنه أسلم وانضم لجماعات صوفية، ومن قائل أنه ترهب واعتكف فى أحد الأديرة».
أدى هذا العمر المسرحى للريحانى إلى أن يكتب عنه عباس العقاد مقاله «رجل خلق للمسرح» بمجلة الكواكب عدد رقم 6، يونيو 1949، يقول فيه: «هو الممثل الذى يغنيك تمثيله أحيانا عن موضوع التمثيل وهذه هى طبيعة الأداء فى الفن الجميل، الأثر الذى تركه هذا الفنان القدير فى نفسى من أدواره المتعددة أنه رجل خلق للمسرح ولم يخلق لشىء غيره، فقد نتخيل كثيرا من الممثلين النوابغ عاملين فى صناعات أخرى غير صناعاتهم المسرحية، ولايشعرك هذا التخيل بشئ من الغرابة، إلا هذا الممثل النابغ الذى لانظير له بيننا فى هذه الخاصة».
يرفض الموسيقار محمد عبدالوهاب رأى العقاد، ويرد بمقاله «رجل خلق للسينما» فى «الكواكب، عدد 7، أغسطس 1949» يقول فيه: «بوسعى كفنان زامل الريحانى فى آخر عمل فنى له وهو فيلم «غزل البنات» أن أقول فى ثقة وحماسة وتأكيد..أننى لا أتخيل الريحانى إلا مظلوما على المسرح، فإن خشبة المسرح كانت تسرق الكثير من عبقرياته لتدفنها فى جو محدود وتطويها دون أن يشعر بها أحد.
أقولها وأنا لا أتخيل شيئا غير الشاشة يمكنها أن تعرض فى اتقان وأمانة وراحة هذا العالم الرحب الرائع، الذى كانت تلعب فيه شخصيات نجيب أدوارها المخلدة، قبل فقدنا له بشهور شعرت متأثرا بأن الريحانى لوتوفى فلن يترك إلا أوراقا بالية ممزقة هى ملفات مسرحيات لن تكون لها قيمة بدونه ودون وجوده، فاعتزمت أن أنفذ مشروعا مع صديقى وشريكى الفنان أنور وجدى وهو أن أبدأ فى إحياء مسرحياته الخالدة على الشاشة البيضاء، ولكن القدر شاء أن نقف بعد المحاولة الأولى لنا فى «غزل البنات» ولعل الفقيد العزيز كان يشعر بأنه وشيك الانتهاء أثناء عمله فى هذا الفيلم فاجتر كل قوت العبقرية الذى كان يختزنه فى نفسه وسجل فنا يمكن أن نعرضه فى قلب إنجلترا أو أمريكا فنبهرهم به قبل أن نبهر أنفسنا.
وبودى حين يعرض «غزل البنات» أن يشاهد الأستاذ العقاد ليتأكد كم أضاع المسرح علينا فلتة من فلتات الفن الإعجازى للريحانى، فإن فى الفيلم منظرا صامتا له وهو يتأمل السيدة ليلى مراد يحدثها فيه بتعابير وجهه، أقسم أنه سينتزع التصفيق القوى من أجمد الناس شعورا، ومستحيل على المسرح أن يشعرك به.. إن الريحانى مات فى نظر المسرح، أما فى نظر السينما فكأنه حى فيها إلى الأبد لأنه خلق لها وخلقت له».