وصل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وزوجته سوزان إلى مدينة فلورنسا الإيطالية فى 19 يونيو 1953، للمشاركة فى مؤتمر «الحضارة والسلام»، وفى الطريق قرأت له زوجته من الصحف أن مصر تحولت إلى النظام الجمهورى، وفى 20 يونيو- مثل هذا اليوم- قضى وقته فى قراءة القرآن الكريم، وظل على هذا الوضع طوال أسبوع لا يقرأ أى شىء آخر، حسبما يذكر الدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973، وزوج ابنته فى كتابه «ما بعد الأيام».
يذكر «الزيات» أنه كان بين المدعوين للمؤتمر قناصل الدول ومنهم قنصل مصر العام مصطفى السعدنى، واعتقد طه حسين أن مشاركته ستقتصر على الاستماع فقط، لكنه فوجئ بدعوة رئيس المؤتمر له للكلام، فسار به ابنه مؤنس إلى المنصة وأجلسه، وبدأ حديثه باللغة الفرنسية، قائلا: «أحب أيها السيدات والسادة أن أتحدث إليكم حديثا قصيرا عن الصلة بين السلام وبين ديننا الإسلام.. إن اسم الإسلام اشتق من السلم، والمسلم فى القرآن هو الذى يسلم الناس من لسانه ويده، وأن إبراهيم أبو الأديان السماوية جاء ربه بقلب سليم، وأسلم وجهه حنيفا، فالمسلمون أهل السلام».
يضيف «الزيات»: «كان بين أعضاء المؤتمر أستاذ فرنسى تجلس إلى جانبه سيدة من شيلى تقول: هذا حديث بديع، بغير أوراق ولا مذكرات، ويرد جارها الفرنسى: وكيف تريدين أن يستعمل الأوراق والمذكرات، وتقول السيدة: لقد انتقل الآن إلى الحديث عن الصلاة، يظهر أن معنى الكلمة الأصلى فى اللغة العربية «هو الدعاء»، يقول إن هناك نصا تاريخيا لدعاء النبى كان النبى يدعو به».
يتابع «طه» قائلا: «كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء إذا تهجد فى الليل، وهذه ترجمتى للدعاء، وهى لا تصور إلا قليلا من بلاغة وجمال الأصل العربى، الدعاء هو: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت قيوم السماء والأرض، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والموت حق، والساعة حق».
تقول السيدة لجارها: أريد أن أكتب هذا لأسجله، ويواصل «طه» محاضرته قائلا: ويستمر الدعاء أيها السادة والسيدات، فيتضمن فقرة كانت دائما أمام ناظرى تضىء لى الطريق فى حياتى كلها.. وهى: اللهم لك أسملت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت إلهى لا إله إلا أنت».
يصف «الزيات» ما حدث: «دوت القاعة بالتصفيق، وتقدم مؤنس لينزل معه والده من فوق المنصة، وتجرى مندوبة شيلى نحوه تقول له: «سيدى الدكتور.. سيدى الدكتور.. أرجو أن تعطنى نسخة من هذا الدعاء، دعاء رسول الإسلام، لأننى أريد أن أعيش به، أدعو به كل ليلة، وأريد أن تحمل أنت إلى دينكم الإسلام، الذى حببتنى فيه منذ اليوم، أن تحمل إليه حبى ودموعى».. يرد الدكتور طه: «حبك كفاية يا سيدتى، لا داعى للدموع.. سأطلب إلى مؤنس أن يعطيك نسخة من الدعاء».
يؤكد «الزيات»: «تواصل التصفيق، والمهنئون يتزاحمون، يقول قنصل مصر العام لطه حسين: رفعت رأس مصر يا سيدى ورأس العرب ورأس المسلمين، سأكتب لمصر فورا وسيسعد مصر الجديدة أن تعرف ما جرى اليوم.. ويقبل سينيور لابيرا رئيس المؤتمر على طه حسين، ويقول للقنصل المصرى: «معذرة يا سيدى القنصل، طه حسين عندكم فى مصر طوال أيام السنة، اتركه لى هذه اللحظة، لأقول له إنك جعلت هذا اليوم خالدا فى تاريخ مدينتى فلورنسا، بشرت فيها بالعدالة أساسا للسلام وللتعاون، وبشرت بها لشعوب البحر الأبيض، لجميع شعوب العالم، اليوم يدرك الجميع أنك وشعب مصر، وشعوب العرب جميعا تنشدون العدالة أساسا للسلام، وتستحقون الوصول إلى العدالة».
عندما يحين موعد الانصراف تقول سوزان لزوجها: هذا أنت تتفوق على نفسك..ويقول مؤنس: وأنت.. أنت كنت تقول لنا إنك لم تكن تدرى ماذا تقول؟.. يرد طه: حقيقة لم أكن أدرى، لم أعد نفسى بالكلام طوال الأسبوع كما قلت لكم، كنت أقرأ القرآن، ومع ذلك فإننى فى الواقع راض عن نفسى وراض عن حديثى اليوم، وما تعودت أن أرضى عن نفسى أبدا، وما رضيت من قبل عن حديث ألقيته فى أى وقت من الأوقات، ولكن كيف كانت لغتى الفرنسية؟.. أجاب مؤنس: شنيعة.. وقالت سوزان: ألا تكف عن هذه الأسئلة فى هذه اللحظة المفعمة بالعزة والفخر؟ ألن ترضى عن نفسك أبدا؟.. كانت لغتك طبعا كالعادة رائعة.
يقول «طه»: قلت لك إننى راض عن نفسى اليوم، وهذا الدعاء تلوته لنفسى قبل أن أنام أمس، ولكن تلاوتى لترجمته اليوم علنا كان لها تأثير غريب فى نفسى، حرك فى شوقا إلى زيارة أرض الحجاز ومدنية رسول الله.. وتقول «سوزان»: «أما أنا فكنت أفكر فى والدك.. كنت أريد أن يسمعك أبوك، وتسمعك والدتك، وكنت أريد أن تكون ابنتنا حاضرة».