كان المثقفون فى المغرب على موعد مع أول محاضرة لعميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين بكلية العلوم، جامعة محمد الخامس، 26 يونيو، ليلة 27 يونيو، مثل هذا اليوم، 1958، وذلك أثناء زيارته إلى المغرب من 24 يونيو 1958، ومنحه خلالها العاهل المغربى الملك محمد الخامس أعلى درجة من «وسام الكفاءة الفكرية»..«راجع، ذات يوم، 26 يونيو 2023».
كان الدبلوماسى والمفكر والمؤرخ المغربى وعضو مجمع اللغة العربية بمصر، الدكتور عبدالهادى التازى، ضمن الوفد المغربى المصاحب للعميد أثناء هذه الزيارة، وسجل شهادته عنها فى كتابه «طه حسين فى المغرب» عن «مجمع اللغة العربية بمصر».
يذكر «التازى» أن الأمير الحسن ولى العهد حضر المحاضرة وعنوانها «الأدب العربى ومكانته بين الآداب العالمية»، وقال الحسن: «إنه يعتز بأنه أمسى من تلامذة الدكتور طه حسين»، ويصف «التازى» أجواء المحاضرة، قائلا: «غصت القاعة على سعتها بالذين كانوا فى شوق بالغ إلى السيد العميد، ومازلت أذكر جيدا أن هذا الجمهور على سعته وتعدد اتجاهاته ظل كأن على رأسه الطير كما يقولون، الكل رجالا ونساء يصيخ بسمعه إلى ما يقوله الدكتور الذى قدمه إلى هذا الجمهور الأستاذ عبدالكريم غلاب».
يضيف «التازى»: «ابتدأ الدكتور طه حسين حديثه وأنت تشعر بأن الرجل يأخذك بأسلوبه الساحر شيئا فشيئا، ليلحق بك برفق إلى الموضوع الذى تناوله من غير أن تشعر بتعب فى تتبع فقرات حديثه ولا بصعوبة فى فهم لغته، وينساق بك إلى أن يصل إلى قمة النتيجة التى يتوخاها من عرضه، فإذا أحس أنك وصلت معه إلى ما يريد، أخذ بك فى العودة بتؤدة ولطف وهو يزودك فى هذه الأثناء بما يدعم أطروحته غير متكلف ولا متصنع ولا مغرب فيما يأتى به من ألفاظ سلسة مغرية، وهكذا تشعر بأنه ماض فى اتجاه الانصراف حتى يصل إلى الدقيقة الأخيرة المحددة للكلام، فيودعك وأنت تشعر بأنك عشت لحظات من الزمان فى غاية المتعة، وكأن الساعة ثانية».
فإذا أضفت إلى كل هذه المنهجية الأخاذة ما حباه الله به من صوت موسيقى رخيم، ومن احترام فائق لقواعد اللغة العربية، واختيار جيد للمفردات الدالة التى يستعملها، آمنت بأنك أمام رائد خبير بمعارج الطرق منها الأقرب إلى الوصول، وقد كان يذكرنى فى دعاء كان يتردد على لسان أحد مشايخنا أثناء الدرس: «اللهم ارزقنا العلم، وارزقنا القدرة على تبليغه».
بعد وصف «التازى» لأجواء المحاضرة، يذكر ملخصا لما جاء على لسان «العميد» فى موضوعها ومنه قوله: «مرت على أدبنا العربى أطوار تستطيع فيها بحق أن تقرر أن هذا الأدب كان هو الأدب العالمى الممتاز فى عصر من عصوره، ذلك أن هذا الأدب لم يكد يخرج من جزيرة العرب حتى انتشر انتشارا رائعا، ولست أعرف فى اللغات القديمة لغة بلغت ما بلغته اللغة العربية من القوة والسعة والانتشار، والقدرة على السيطرة على العالم القديم فى أكثر أجزائه.. اللغة العربية استطاعت أن تقهر اليونانية فى الشرق، وأن تقهر اللغات الشعبية التى كانت منتشرة فى هذه البلاد الشرقية، وتقهر اللغة الفارسية نفسها، ثم أن تقهر اللاتينية فى المغرب العربى وفى الأندلس، وتصبح هى اللغة العالمية التى يتكلمها الناس فى الشرق والغرب جميعا».
«نعم كانت قبل اللغة العربية لغات قديمة أخرى انتشرت فى الشرق، وسيطرت على سياسته وإدارته وثقافته، لكنها لم تبلغ فى وقت من الأوقات أعماق الشعوب الشرقية، ولم تستطع أن تغير من نفوس الشرقيين ولا من لغاتهم شيئا، وإنما فرضت نفسها سياسيا فكانت لغة الحكام، وكانت لغة الإدارة ولغة الثقافة الرسمية، وظلت الشعوب تتكلم لغاتها الخاصة، فالأمة اليونانية فرضت سيطرتها على الشرق عشرة قرون، لكن الشعوب ظلت محتفظة بلغاتها الخاصة، فكان المصريون محتفظين بالقبطية، والسوريون وأهل الجزيرة والعراق محتفظين بالآرامية، وجاء الرومان بعد اليونان فلم تستطع لغتهم اللاتينية أن تنتشر فى الشرق بحال من الأحوال، وظلت الشعوب مع ذلك محافظة على لغاتها الموروثة، إلى أن جاءت اللغة العربية بعد الفتح الإسلامى فانتشرت ودون أن يتخذ السلطان العربى أية قوة لفرضها.. نظرنا فإذا هذه اللغة تنتشر شيئا فشيئا.. ولا تلبث أن تصبح اللغة العامة لكل البلاد التى فتحها المسلمون فى الشرق والغرب».
«انتشرت اللغة العربية بقوة القرآن، وبهذه القوة وحدها استطاعت أن تكون لغة عالمية لأول مرة وبأوسع معانى هذه الكلمة، لكن الأدب الجدير بهذه المرتبة هو الذى يستطيع أن يأخذ ويعطى ولا يكون منعزلا عاكفا على نفسه، يأخذ من الآداب المختلفة ما يلائم طبيعته، فلا يعيش منعزلا، وإنما يعيش متصلا بحياة الأمم البعيدة منها، ويعطيها فى نفس الوقت ما يستطيع.. إن كل أدب جدير بهذا الاسم يجب أن يأخذ ويعطى ويتأثر ويؤثر».