فى قضية الخصوصية والنشر على المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى، نحن أمام وقائع جدلية، تثيرها عمليات النشر والشير، يبررها البعض بتبريرات أخلاقية، ويرفضها البعض لضررها المضاعف، على الأفراد والمجتمع، ويطالب البعض بقوانين وتشريعات، بينما الواقع يشير إلى أن التشريعات القائمة كافية، وتحتاج إلى تفعيل، وأن القضية تتطلب نقاشا فى المجتمع الطبيعى والافتراضى وصولا إلى قواعد يمكنها أن تحكم المجتمع المعقد، مع صعوبة التوصل إلى قواعد يمكنها تحديد المسموح والممنوع فى تصوير ونشر الأفراد من دون علمهم فى الأماكن العامة، أو فى احتفالات خاصة، مثلما جرى مع السيدة فى حفل الزفاف.
وإذا كان الطبيعى أن ما تلتقطه كاميرات عامة فى الشوارع لا يثير الجدل، فإن الجدل يثور عند التعامل مع احتفال فى مكان عام، أو ناد، أو مركب، باعتباره صيدا بلا صاحب يستحق النشر، وبالتالى يجد طريقه للشيوع العام من طرف ثالث، متلصص ينشر خصوصيات الآخرين، ولا يرى فى هذا أى مخالفة.
وبالتالى فإنه حتى ما يجرى فى مكان نصف عام يصعب فى زمن «الكاميرات الذكية» أن يظل خاصا، وبالتالى تضيع الحقوق، خاصة مع النشر والشير الواسع والمتعدد وتقع جرائم قد يفلت فاعلوها ويظل الجدل مستمرا، ومتنوعا تنوع المجتمع الافتراضى الذى هو انعكاس أكثر تركيزا للعالم الطبيعى.
هذا بجانب تحول بعض البلوجرز والناشطين إلى تقديم حياتهم الخاصة فى فيديوهات للعرض العام، وبعضها مشاهد شديدة الخصوصية، بحثا عن مشاهدات، مثلما فعل الشاب مع والده عندما سجل ووثق بالفيديو اللحظات الأخيرة لاحتضار والده وتفاصيل الوفاة وما بعدها حتى الدفن. وتباهى بأن الفيديو بعد عرضه على تيك توك حقق 1.6 مليون مشاهدة وواجه اتهامات بالقسوة والعقوق والعدوان على حرمة الموت، والمتاجرة بها بحثا عن عوائد.
الشاب يرى أن نسبة المشاهدات دليل على وجود جمهور شاهد الفيديو ودعا لوالده، وهذه فى حد ذاتها قضية جدلية، فيما يتعلق بالمشاهدات فهى تتحقق سواء كان المتفرج رافضا أو موافقا، وبالتالى فصاحب الحساب يكسب، ويعتبر المشاهدات نوعا من النجاح.
وهو يقول إنه إذا كان 30% انتقدوا فهناك 70% تعاطفوا معه.. الشاب يرى أنه فعل ما يفعله كل بلوجرز ولا يرى أنه أقدم على تصوير وعرض شىء مخل.
نحن أمام مواقف بلا حدود وهذا التوجه يفتح الباب للمزيد من التفاصيل التى يمكن أن تكون مادة للفرجة والعرض على مواقع التواصل، التى تدعم كل ما يمكن أن يحقق نسب مشاهدة بصرف النظر عما إذا كانت تنافى الشعور أو المجتمعات، لأن المواد المثيرة والنميمة والمعارك الكلامية والحياة الخاصة والصراعات هى التى تحقق نسب مشاهدة وعوائد لهذه المواقع، والتى تشجعها وتمنح أصحاب الصفحات عوائد تشجعهم على المزيد من العروض الأكثر إثارة.
كل هذه المواقف والمواد تشجع المزيد من الأفراد على الانضمام إلى مجتمع الاستعراض ونسب المشاهدة، ولهذا تشهد منصات التواصل منافسة بين البلوجرز والنشطاء لعرض كل ما يمكن أن يحقق مشاهدات، وعوائد، لهم ولمنصات العرض، التى تتعامل ببراجماتية وتعرض كل ما يحقق الهدف، سواء كان مشاهد خارجة أو خلطا بين الأنشطة المنزلية والاتجار بالصوت والصورة التى تتجاوز بعضها وتصل إلى ما حول الإباحية أو استعراض الحياة الخاصة.
وهذا الوضع الافتراضى يعيد التذكير بقصة الدكتور يوهان جورج فاوست الذى يحقق نجاحا لكنه لا يشعر بالرضا عن حياته، ويتعاقد مع الشيطان يسلمه روحه، مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكل الملذات الدنيوية، ويبدو أن فاوست تكاثر على السوشيال ميديا.
بناء على هذا تظل أدوات التصوير والنشر شاهدا على عصر، تصبح فيه إثارة الجدل هدفا ورغبة، وتفرض أدوات التواصل والنشر ورغبات الكسب، وتضع المجتمعات أمام تساؤلات تتعلق بمدى الاستعداد لتغيير أفكار راسخة، وتبحث عن طريق للتكيف مع واقع ليس مثاليا، يحمل قدرا من الجرأة وإثارة الجدل، تجعل من الصعب أحيانا تحديد خطوط بين الخاص والعام، وتذكرنا أننا فى عصر مختلف له قواعده ومفرداته، أم أن هذه المجتمعات الافتراضية يمكن أن تصل إلى قواعد تحكم الجدل حول الخصوصية؟