كان الوقت قبل ظهر 9 يوليو، مثل هذا اليوم، 1915 حين كان السلطان حسين كامل يسير بموكبه من قصر رأس التين بالإسكندرية إلى مسجد سيدى عبدالرحمن بن هرمز، لأداء صلاة الجمعة، وفجأة ألقيت عليه قنبلة من نافذة منزل مطل على شارع رأس التين، لكنها لم تصبه، حيث سقطت على ظهر أحد جوادى المركبة السلطانية، ثم تدحرجت على الأرض ولم تنفجر، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919.. تاريخ مصر القومى من سنة 1914 إلى سنة 1921».
كانت هذه المحاولة هى الثانية لاغتيال حسين كامل، فى ثلاثة شهور، كانت الأولى يوم 8 إبريل 1915 ونفذها محمد خليل «تاجر خردوات بالمنصورة» بإطلاق رصاصة أخطأت الهدف، وتم القبض عليه، وبناء على طلب السلطة البريطانية قدم لمحاكمة عسكرية، وفقا للدكتور مصطفى الغريب محمد، فى كتابه «السلطان حسين كامل من الإمارة إلى السلطنة»، مضيفا: «مثل محمد خليل أمام المحكمة العسكرية، وأعلن أنه آسف على عدم إصابة الرصاصة للسلطان، وحينما سئل عن سبب رغبته فى قتله، أرجع ذلك إلى خيانته لمصر بقبوله العرش من الإنجليز، وموافقته على الحماية، وأشار إلى أنه لو حدث وأطلق سراحه لعاد إلى ارتكاب الجريمة نفسها»، وصدر الحكم بإعدام محمد خليل شنقا، ويؤكد «الغريب»: «ظل رابط الجأش لآخر لحظة، فحينما سأله مأمور السجن يوم تنفيذ الحكم عن طلباته، أجاب بأنه يطلب رأس السلطان، وعندما وقف على منصة الإعدام، هتف قائلا: «يسقط السلطان وتحيا مصر».
بعد ثلاثة شهور وقعت محاولة الاغتيال الثانية، وجرت المحاولتان فى سياق الغضب العام من قبول حسين كامل تبليغ الحكومة البريطانية بتوليه السلطة يوم 19 ديسمبر 1914 بعد إعلان حمايتها على مصر وخلعها الخديو عباس الثانى، ويؤكد «الغريب»: ساء المصريين ما حدث من تنصيب سلطان البلاد بخطاب وجهه إليه القائم بعمل المعتمد البريطانى فى مصر، وتوالت مظاهر الرفض لحسين كامل، ففى يوم الاحتفال بتتويجه ظهر طلاب مدرسة الحقوق وهم يرتدون رابطات عنق سوداء، وذهبت معظم طالبات مدرسة البنات الثانوية متشحات بالسواد، وفى مساجد القاهرة كان دعاء الإمام لخليفة المسلمين يتكرر ثلاث مرات على التوالى، وفى كل مرة كان المصلون يرددون الدعاء بصوت عال يشترك فيه الجميع، وعندما دعى لسلطان مصر الجديد، جاء رد المصلين ضعيفا وغير مسموع، وكثير منهم كانوا لا يؤمنون على الدعاء، كما اتفق بعض طلاب مدرسة الحقوق على عدم الحضور للمدرسة يوم زيارته لها فى 18 فبراير 1915 احتجاجا على الأوضاع القائمة».
كانت محاولتا الاغتيال ذروة التعبير عن حالة الغضب الشعبى، يقابلها دهشة من حسين كامل، كما يشير سعد زغلول، وكان وقتها يشغل منصب «وكيل الجمعية التشريعية»، حيث يذكر فى الجزء الخامس من مذكراته، أنه سافر إلى الإسكندرية لتقديم التهنئة للسلطان على سلامته، يضيف: «رأيته متأثرا جدا، وكان يختنق أحيانا بالبكاء، وكنت ألاطفه وأسهل وقع الحادث عليه، ويؤلمه تصور أن الشعب لا يحبه ويستخف به، رغم ما يسديه من المعروف، وما يبذله من الجهد فى سبيل إسعاد الوطن وتقدمه، ثم أوصانى أن نُفهّم الناس حقيقة ما انطوى عليه من مكارم الأخلاق ومن علو الشعور، وانصرفت متأسفا على حالته».
انتشر رجال البوليس للبحث عن الجانى الذى ألقى بالقنبلة، ووفقا لجريدة المقطم، 12 يوليو 1915، فإن الحكومة وضعت مكافأة كبيرة قدرها 500 جنيه لمن يقبض على الجانى أو يرشد عليه، وجرت اعتقالات واسعة يعلق عليها سعد زغلول، قائلا: «يظهر لى أن كل واحد ظن أنه إن لم يقبض عليه فعلا، فلا يبعد أن يقبض عليه بعد ذلك، وهكذا اضطربت القلوب، وانكسرت النفوس أيما اضطراب! وأيما انكسار!»، وتذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «مصر فى الحرب العالمية الأولى»: «بلغ الحال بالسلطان حينئذ أن أصبح يشتبه فى كل المصريين بعد أن شعر بأنه محاط بالخطر من كل جانب، وأن قوات الحماية البريطانية صارت غير قادرة على حمايته».
يذكر «الرافعى» أن التحقيق أسفر عن اتهام تسعة شبان بتدبير الحادث وهم، محمد نجيب الهلباوى، محمد شمس الدين، محمد فريد، محمود عنايت، شفيق منصور، أحمد سابق، عبدالفتاح يوسف، عبدالله حسن، على صادق، ثم استقر رأى النيابة على إدانة اثنين وهما، محمد نجيب الهلباوى، ومحمد شمس الدين، وحوكما أمام مجلس عسكرى بريطانى، فحكم عليهما بالإعدام شنقا، وصدق القائد العام للقوات البريطانية على الحكم، لكن السلطان حسين طلب تخفيفه فأبدله القائد العام بالأشغال الشاقة».
ظل محمد نجيب الهلباوى 9 سنوات فى السجن حتى خرج بعفو، لكنه تحول إلى خائن بعد أن عرض نفسه للعمل مع المخابرات الإنجليزية وساعدها فى تسهيل مهمة القبض على الفدائيين الذين اغتالوا «السيرلى ستاك» سردار الجيش المصرى وحاكم عام السودان فى 20 نوفمبر 1924.