حين هبطت الطائرة القادمة من يوغسلافيا فى مطار القاهرة بالرئيس عبدالناصر، ورئيس الوزراء الهندى نهرو فى الساعة الثانية صباح 21 يوليو، مثل هذا اليوم، 1956، كان العالم ما زال على ترقبه لرد الفعل العملى لمصر نحو إعلان أمريكا والبنك الدولى سحب تمويل مشروع السد العالى، وما جاء من إهانة فى البيان الأمريكى الصادر حول ذلك، حيث شكك فى قدرة مصر على تحمل الأعباء الاقتصادية لبناء السد.
كان الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، ضمن الوفد الذى رافق عبدالناصر فى زيارته إلى يوغسلافيا التى شهدت مؤتمرا ثلاثيا بين نهرو وتيتو وعبدالناصر فى جزيرة بريونى، وفى ختام الزيارة أعلنت أمريكا قرارها، وفى طريق عودة عبدالناصر ومعه نهرو الذى كان سيقضى عدة أيام فى زيارة لمصر، وفى الطائرة كان عبدالناصر يتلقى أولا بأول البرقيات الخاصة بالموضوع من واشنطن، ويروى هيكل، وسامى شرف مدير مكتب عبدالناصر، شهادتيهما عن تلك اللحظات التى قادت إلى قرار تأميم قناة السويس.
يذكر «هيكل» فى كتابه «ملفات السويس» أن قيادات الدولة كلها كانت فى انتظار «عبدالناصر» لحظة وصوله إلى المطار، وكذلك السفراء وبينهم السفير الأمريكى هنرى بايرود، الذى كان يقضى آخر أيامه فى مصر بعد قرار نقله إلى جنوب أفريقيا، وراح عبدالناصر ونهرو يصافحان المستقبلين، وحين وصل «عبدالناصر» إلى «بايرود» لم يكن لدى «بايرود» تعليق سوى قوله: «سيدى الرئيس إننى حزين جدا»، ولم يعلق عبدالناصر.
يؤكد «هيكل»: «فى استراحة المطار اطلع عبدالناصر لأول مرة على النص الكامل لبيان وزارة الخارجية الأمريكية، وكان فى مجمله أسوأ بكثير مما نقلته إليه الرسائل التى تلقاها فى الطائرة»، ويتذكر سامى شرف فى الكتاب الأول من مذكراته «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر»، أنه بعد الوصول إلى القاهرة التفت إليه عبدالناصر وقال له: «بكرة تصحى بدرى وتجيب المجموعة اللى جهزت دراسات قناة السويس، كل منهم على حدة ولا تستخدم التليفونات أو وسائل الاتصال العادية وتستنى منى تعليمات».
يضيف «شرف»: «كانت هذه المجموعة تضم مصطفى الحفناوى، وأمين أنور الشريف، ومحمد على الغتيت، وحلمى بهجت بدوى»، وفى الصباح طلب الرئيس تجميع الدراسات التى سبق إعدادها على أن نجتمع مع على صبرى لوضع التوصيات التى يمكن بحثها إذا ما أجبرنا على اتخاذ إجراءات تتعلق بإدارة قناة السويس، ولم يطرح كلمة «تأميم».
يذكر «هيكل»: «دخل عبدالناصر بيته قرب الفجر ولم ينم، وفى الصباح كان عليه أن يعقد اجتماعا مع «نهرو»، وأن يتناول معه الغذاء فى السفارة الهندية، واتصل «نهرو» فى الصباح يرجوه ألا يشغل باله به، فهو أول من يعرف ويقدر خطورة الظرف المستجد وما يستدعيه الأمر بعد ذلك من تفكير، وسوف يسعده أن يعتبر الرئيس عبدالناصر أن صديقه «نهرو» موجود فى القاهرة لإجازة شخصية يتفرج فيها على معالمها السياحية دون مقابلات رسمية أو محادثات خصوصا وأنهما تحدثا بما فيه الكفاية فى «بريونى»، لكن عبدالناصر أصر على أن يسير برنامج «نهرو» كما كان مرسوما له من لقاءات بينهما يوم «الجمعة» وقال لنهرو، يوم الجمعة إجازة رسمية، ويسعدنى أن أقضيه معك، وفى يوم السبت سأتركك تتصرف كما تشاء».
يؤكد «هيكل»: «على الغداء فى السفارة الهندية كان الحديث مركزا على نقطة واحدة وهى مقاصد اللهجة المهينة التى صيغ بها التراجع الأمريكى عن المساهمة فى تمويل السد، وكان اتفاق الرجلين على أن هذه اللهجة هى بداية سياسة وليست نهاية سياسة، وأثناء خروجه من السفارة الهندية التفت إلى الرئيس جمال عبدالناصر وقال: «سوف يكون على كل واحد منكم أن يفكر فى الخطوة التالية».
يذكر «شرف» أن «عبدالناصر» لمح لنهرو إلى نوع من فرض السيطرة المصرية على مرفق قناة السويس، فرد نهرو: «الدول الصغيرة يجب أن تعطى المثل للدول الكبيرة حتى تمنعها من التمادى فى شؤونها وتبرز قدرتها على الرد، ولكن هذا القرار يعنى الحرب، فهل أنتم مستعدون؟ على العموم نحن تحت أمركم، واعتبرونا معكم فى أى معركة ستواجهها مصر، وأنه يتوقع أن مصر مقدمة على ظروف صعبة وقاسية سوف تشغل القيادة، ويفضل العودة إلى بلاده حتى يترك الوقت للقيادة المصرية لترتيب أمورها واتخاذ القرار الذى يكفل حقها وكرامتها، مع تأكيده على استعداده لتقديم أى عون تطلبه مصر».
يؤكد شرف، أن نهرو سافر فعلا فى ذلك اليوم، واستمرت الأحداث.