توافد الوزراء إلى المنزل الذى استأجره جمال عبدالناصر فى«الرمل» بالإسكندرية، قبل أن يلقى خطابه من شرفة مبنى البورصة بميدان المنشية، 26 يوليو «مثل هذا اليوم 1956». كان فتحى رضوان وزيرا للإرشاد القومى، ويذكر شهادته عن هذا الحدث فى كتابه «عبدالناصر» قائلا: «تجمع الوزراء وكل منهم فى حالة عادية، وجاء عبدالناصر ليأخذ مكانا فى البهو الطويل الضيق، وبدأ يتكلم، وما كاد أن يكمل جملتين من حديثه إلا وأدرك الوزراء أن الاجتماع الذى بدا عاديا وبريئا، إنما هو اجتماع له ما بعده».. يضيف رضوان:«أعلن عبدالناصر أنه أعد وثائق تأميم قناة السويس، وسيعلنها فى خطبته.. شملت السعادة الذين كانوا فى البهو، فالقناة بماضيها كانت قرحة ملتهبة فى جسم مصر».
يروى «رضوان» قصة يؤكد من خلالها أن القناة لم تكن ستعود بعد انتهاء فترة الامتياز فى نوفمبر 1968.. يقول: قبل اجتماع مجلس الوزراء يوم 26 يوليو بأيام قليلة، أعد مذكرة لعرضها على مجلس الوزراء، يعود الفضل فيها إلى المهندس «طراف على» وزير المواصلات السابق ومندوب مصر لدى شركة قناة السويس.. يذكر «رضوان»: «مر المهندس طراف على فى مكتبى بوزارة المواصلات ومعه إحدى الصحف البريطانية، وفيها نبأ منقول عن جريدة «هندوستان تايمز» الهندية، وهى صحيفة ذات نفوذ كبير فى الهند، لاتصالها بأكبر دوائر المال فى بريطانيا وأمريكا، وتضمن هذا النبأ أن شركة قناة السويس فرغت من إعداد مشروعات تهدف إلى توسيع القناة وتعميقها، وتزويدها بجهاز جديد للإشارات الكهربائية، إلى جانب مشروعات مساكن للعمال والموظفين بالشركة، وقال لى المهندس طراف: «إن إقدام شركة القناة على هذه المشروعات الضخمة قاطع الدلالة على أن الشركة تطمئن إلى أن امتيازها لن ينتهى فى سنة 1968 أى بعد 12 سنة».
يضيف «رضوان»: «أعددت مذكرة بهذا المعنى، وأوشكت أن أطلب من سكرتارية مجلس الوزراء توزيعها على الوزراء للتداول فيها، ثم عدلت، وأثرت أن أحدث عبدالناصر وحده فى هذا الشأن، فحدثته وسلمت له الصحيفة التى سلمنى إياها «طراف على»، ولكن عبدالناصر استمع إلى الأمر بغير اكتراث، وتسلم الصحيفة بقدر كبير من اللامبالاة، ولولا الحياء الذى كان من أبرز صفاته، لما مد لى يده ليأخذها».. يتساءل «رضوان»: «أكان هذا تمثيلا، إمعانا فى التكتم وإخفاء النوايا؟».
يعود «رضوان» إلى روايته عما دار فى اجتماع مجلس الوزراء، مشيرا إلى أن عبدالناصر سأل: «هل يشعر أحدكم بالذعر؟»، وخص «رضوان» بالسؤال، فشعر بإهانة بالغة ولا مبرر لها من السؤال، فرد: «ولماذا أنا الذى أشعر بالذعر، أذعنا طوال الشهر الحالى مسلسلا إذاعيا بعنوان «إسماعيل المفتش»، ذكرنا فيه المصريين بمأساة بيع 176 ألف سهم من القناة تملكها مصر، وباعها الخديو إسماعيل بأربعة ملايين جنيه لبريطانيا، استدانها اللورد «درزائيلى» من يهودى مثله هو اللورد «روتشيلد».
رد عبدالناصر: «سيقولون فيما بعد إنك كنت تمهد لقرار التأميم»، فواصل «رضوان»: «أصدرنا كتيبا بعنوان «أضواء على قناة السويس»، نقدنا فيه ما يروجه الغرب من أن مساهمة مصر فى مشروع القناة كان بالأيدى العاملة الرخيصة فقط، وأثبتنا أن لدينا دراسة هندسية وطبوغرافية للمشروع تمت فى عهد محمد على، وساهم فيها مهندسون ومساحون مصريون»، فسرح عبدالناصر بخاطره وسأل: «أين هذه الدراسة؟ أجابه رضوان: «عندنا وعرضناها للبيع، وراجت كثيرا»، فقال عبدالناصر: «حسنا.. أرسل لى واحدة منها فقد نحتاج إليها فى المستقبل».
فى حضور عشرات الآلاف، بدأ عبدالناصر خطبته، ويصفها أحمد حمروش فى كتاب «ثورة 23 يوليو»: «كانت قمة خطبه وأعظمها تأثيرا فى الجماهير وأشدها إثارة»، ويتذكرها «رضوان»: «تكلم عبدالناصر بأسلوبه الذى تميز به، وكان مزيجا من العربية الفصحى فى مطلع الخطبة، وفى الفقرات الافتتاحية لأجزاء الخطاب وفصوله الرئيسية، ثم «العامية المطلقة» مع ميل إلى التكرار والإطالة، ولكن الجماهير ليس فى مصر وحدها بل فى بلاد العرب كلها شرقا وغربا أحبت هذا الأسلوب، لم يكن فى وسع أى عربى حتى رعاة الإبل فى قلب الصحراء أن يمنع نفسه من أن يدير الترانزستور إلى إذاعة مصر ليسمع وينتشى».
جلس «رضوان» فى الصف التالى لـ«عبدالناصر»، يتذكر: «تأملت هذه الجموع الحاشدة، التى لا تدرى شيئا عن المفاجأة المذهلة التى يخبئها عبدالناصر، وما كاد يقرأ اللفظ الأول من عنوان قرار التأميم حتى أصابت الناس هزة عنيفة، لا فى الميدان وحده بل فى كل بيت من بيوت مصر، وفى كل بيت من بيوت العالم العربى، وفى الشوارع والأزقة، وفى السيارات المنطلقة بأقصى سرعة، فى كل حدب وصوب وطريق ودرب، ومعهم أجهزة الاستماع، رأيت الناس دفعة واحدة، وبلا سابق اتفاق يقفزون فى الهواء، ويرتفعون عن الأرض صدقا».