"لقد أرغموا قسيسا مسناً للجلوس على ركبتيه قرب مذبح الكنيسة ونحروا عنقه، ورددوا عبارات بالعربية".. بهذه الكلمات أطلت الراهبة "دنييلا" إحدى الناجيات من هجوم فرنسا الإرهابى الأخير على شاشة "سى إن إن". تابعها ملايين من بينهم الرئيس فرانسوا أولاند وهى تروى تفاصيل لحظات الرعب التى اعتادها الفرنسيون فى الآونة الأخيرة، لتذٌكر المجتمع الدولى كيف مزق "داعش" شباك أعتى الأجهزة الأمنية وأحرز أهدافاً تعذر على أسامة بن لادن أن يحقق مثيلاً لها.
يغفل "أولاند" وهو يشاهد الراهبة الناجية أن بلاده لن تنعم بالأمان ما لم تطوى سوريا صفحة تنظيم داعش الإرهابى، وتدخل مرحلة انتقالية لا مكان فيها لمليشيات المعارضة المسلحة. يحتاج أن يدرك أن أمن فرنسا لا يقع على الحدود مع إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا.. وإنما فى أقصى الشرق حيث يتمدد وباء تنظيم "داعش" على الأرض السورية.
تدين الحكومة الفرنسية العمليات التى تنفذها قوات النظام السورى ضد المليشيات التى تسيطر على مدينة حلب، وتدفع بوزير خارجيتها جان مارك آيرولت إلى وصفه تلك العمليات بـ"الحصار"، فى مؤتمراً مشترك مع نظيره البريطانى مساء الخميس، لتواصل فرنسا دون أن تدرى خسارة معركتها مع الإرهاب.
يحتاج "أولاند" إلى الخروج من العباءة الأمريكية والنظر إلى دمشق بأعين مختلفة. خسر الرئيس الفرنسى على الملعب السورى مرتين منذ انخراط باريس فى الحرب على "داعش" 8 سبتمبر 2015، حين عجز عن دحر التنظيم الإرهابى أو كسر شوكته كغيره من دول حلف الناتو بعدما تعالى على التنسيق مع النظام السورى، وأصر على اعتباره جزءً من الأزمة وليس جزءً من الحل. وعندما فشل فى احراز أهدافاً دبلوماسية فى شباك النظام، بعد أن نجح بشار الأسد فى أن يحتل مكاناً مضموناً فى المرحلة الانتقالية المرتقبة، ورجح الدخول الروسى فى الحرب ضد "داعش" كفته على الصعيدين الدبلوماسى والعسكرى.
يتأمل الرئيس الفرنسى الخرائط وأعلام "داعش" وهى تعتلى الحدود فى سوريا والعراق، لم تعد تركيا حصناً شرقياً يمنع عن أوروبا أمواج اللاجئين الوافدة من دمشق وحلب والتى لن تخلوا من مقاتلى التنظيم الإرهابى بعدما أعلن السلطان العثمانى رجب طيب أردوغان الحرب على مؤسسات الدولة التركية، وفكك جيشه وأجهزته الأمنية رداً على محاولة الانقلاب الأخيرة التى شهدتها بلاده.
يراقب "أولاند" الشاشات ويتابع كيف تحولت بلاده من قبلة الثقافة والفنون إلى ساحة مقاتلين من شتى بقاع الأرض لا يترددون فى النحر والدهس والتفجير. يدرك ـ ولو متأخراً ـ أن الخرائط التى دبجها الفرنسى جورج بيكو لمنطقة الشرق الأوسط قبل 100 عام لم تحصن الدولة الأم من قوافل الهجرة غير الشرعية التى عرفت طريقها جيداً من دمشق إلى باريس، ومن تونس إلى نيس.
يختبر الرئيس الفرنسى قانون الطوارئ ويفشل. لجأ إليه بعد حادث الدهس الإرهابى، لكنه لم يمنع ذبح قس كنيسة "روان" الواقعة فى منطقة نورماندى شمال البلاد، والمؤشرات تؤكد أنه لن يكفل السلام الذى فقده الفرنسيون منذ ما يقرب من عام، فالإجراءات الأمنية وأجهزة الفحص ليس فى مقدورها معرفة ما يدور فى رأس قائد شاحنة، أو زائراً لدار عبادة أقسم سراً على الولاء لتنظيم قطع الرؤوس.
يتذكر أولاند حين أقسم اليمين الدستورية رئيساً للبلاد، كان سلفه نيكولا ساركوزى يستعد لمغادرة الإليزية بعدما بدل سيدة القصر، وتزوج من عارضة الأزياء كارلا برونى. لم تكن فرنسا آنذاك مشغولة بإرهاصات الربيع العربى أو تبعاته. ولم تهتم الأجهزة الأمنية كثيراً بذلك الشاب المدعو "بيتر شريف" الذى تمكن من الهرب من السجون الفرنسية، بعدما ردته السلطات السورية قبل ثورات الربيع العربى إلى باريس مرحلاً.
كان "شريف" الشاب الذى لم يبلغ حينها عامه الثلاثين، يحمل سجلاً حافلاً بجرائم الإرهاب، نشأ فى كنف القاعدة ونفذ العديد من العمليات فى عراق ما بعد صدام، قبل أن يقع فى قبضة القوات الأنجلو ـ أمريكية، التى أصدرت حكماً بسجنه لم ينفذ منه إلا بضعة شهور ليتمكن بعدها من الهرب إلى سوريا حيث سلمته الأجهزة الأمنية هناك إلى فرنسا.
يتذكر أولاند، كيف تمكن الشاب من الهرب قبل أن يبدأ هو ولايته الرئاسية ببضع شهور، ويتذكر كيف كانت عودة "شريف" إلى فرنسا دموية عندما شارك فى الهجوم الإرهابى الذى استهدف مجلة "شارلى إبدو"، بعد أن استبدل رايات تنظيم داعش، بأعلام تنظيم القاعدة.
تتوالى الجرائم الإرهابية، وتكشف الملفات أمام الرئيس الفرنسى بطلان الحسابات. يستعد أولاند إلى مغادرة القصر، 9 أشهر تفصله عن الانتخابات الرئاسية التى يعلم أنه لن يكون فيها خياراً قابلاً للطرح على الفرنسيين. يتذكر كيف كان دخوله السلطة محفوفاً بالمخاطر، كانت رياح الربيع العربى قد اقتلعت أنظمة الحكم فى تونس والقاهرة وليبيا من جذورها، لكن وحده بشار الأسد، من تبقى من أصدقاء فرنسا القدامى، بعدما تحول مشهد الربيع العربى فى دمشق من احتجاجات شعبية تطالب بإصلاحات، إلى نظام حكم يواجه إرهاباً مسلحاً.
بتذكر أولاند كيف جاهرت الحكومة الفرنسية بالعداء مع النظام السورى، متبنية رؤية الإدارة الأمريكية الزائفة فى حربها ضد إرهاب تنظيم داعش، والتى لم تكبد باريس إلا انتهاك حدودها والوقوع فريسة للذئاب المنفردة التى عاد معها "بيتر شريف"، لتستقبل فرنسا 4 هجمات إرهابية فى أقل من عام.
يدرك "أولاند" ولو متأخراً أن الربيع العربى كان أقصر من مدة رئاسية وفصلاً تشريعياً، وأن مصادرة الإسلاميين لثمار الثورات الشعبية ورفضهم الرحيل عن المشهد أمام ثورات مماثلة كان سيتبعه بطبيعة الحال عودة لعصور الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، وأن بلاده ستكون فى مرمى الهدف.
تحتاج فرنسا أن تدرك أن أمنها لا يقع على حدودها مع إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا.. يحتاج أولاند أن يدرك قبل رحيله أن أمن بلاده يبدأ من أقصى الشرق حيث يتمدد وباء تنظيم "داعش" على الأرض فى سوريا، وأن باريس لن تنعم بالسلام ما لم يكون هناك نصراً حاسماً على الأرض فى دمشق، يضمن اختفاء كافة التنظيمات المسلحة وعودة الحياة إلى مؤسسات الدولة السورية.