تحل اليوم ذكرى رحيل الشاعر العربى الرائد صلاح عبد الصبور الذى توفى عام 1981 عن نوبة قلبية، أودت بحياته، بعد مشادة كلامية وتوجيه اتهام له بالتطبيع، وهو ما لم يتحمله الشاعر الإنسان، الذى فارقنا بعد 6 دواوين و5 مسرحيات وعدد من الكتب النثرية والترجمات المهمة.
لا شك أن اختلاف صلاح عبد الصبور عن كبار الشعراء، جاء من إنسانية شعره، واشتغاله بقضايا الإنسان، أينما كان، حيث تجنب الصوت العالى الذى كان سمة أغلب شعراء المرحلة مع صعود المد القومى، وهو بالطبع لا يعيب أحدًا.
فطن صلاح عبد الصبور فى مرحلة مبكرة إلى أن الشعر هو كتاب الإنسان، الإنسان فقط بقضاياه وبحثه عن الحرية والعيش والطمأنينة فى عالم بشع يحكمه الصراع، ويحكم فيه القوى على الضعيف.
وبالطبع لم يغفل "عبد الصبور" قضايا مجتمعه ولا المرحلة التى كان تعيشها مصر، ولكن اختلاف تناوله لذلك نبع من إيمانه الحق بالإنسان عامة والإنسان المصرى خاصة، فرصد هموم الحقبة من خلال انعاكسها على الناس.
فمنذ أول أعماله "الناس فى بلادى"، كانت القيم الإنسانية الرافد الوحيد والأول الذى نهل منه الشاعر الفذ، رغم صدوره فى فترات المد القومى والتطلعات الناصرية العربية.
يبدأ الشاعر الرائد قصيدته "الناس فى بلادى" بالحديث عن البشر، عن همومهم الوجودية، مازجًا بين أبجديات المجتمع الريفى البسيطة والمتاعب التى يواجهها الناس من جوع وفقر وألم، لينطلق منها إلى قضايا الإنسان الكبرى والتساؤل عن غاية الإنسان وماهية وجوده وسبب الحياة، من خلال السرد الشعرى لقصة "عم مصطفى":
عند باب قريتى يجلس عمى “مصطفى”
وهو يحب المصطفى
وهو يقضّى ساعة بين الأصيل والمساء
وحوله الرجال واجمون
يحكى لهم حكاية.. تجربة الحياة
حكاية تثير فى النفوس لوعة العدم
وتجعل الرجال ينشجون
ويطرقون
يحدقون فى السكون
فى لجة الرعب العميق، والفراغ، والسكون
ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟
هكذا ينطلق "عبد الصبور" من فردية الألم المصرى ومفرداته التى يشحن بها قصيدته إلى جماعية الألم الإنسانى، يبحث عن مصير الكائن الذى استخلفه الله فى الأرض، فقاسى فيها، وعانى من ويلات الحرب والجوع.. وهو ما ينهى به الشاعر نصه "بالعام عام جوع".
فى قصيدة "مرثية رجل تافه"، يرثى "عبد الصبور" برؤيته الطليعية الفريدة وإنسانيته، الفرد الذى هو أنا وأنت، سمه المواطن إن شئت، أو سمة الإنسان الذى "مضت حياته...كما مضت ذليلة موطَّأة كأنها تراب مقبرة وكان موته الغريب باهتا مباغتا منتظَرا، مباغتا.. الميتة المكررة كان بلا أهل، بلا صِحاب فلم يشارك صاحبا، حين الصبا، لهوَ الصبا ليحفظ الوداد فى الشباب.. كان وحيدا نازفا كعابر السحاب.. وشائعا كما الذباب".
يرثى الشاعر بطله الذى هو الإنسان، يخلد حكايته العادية مقابل حكاية الحرب، يؤرخ مسيرته البسيطة فى مقابل التاريخ الذى يدونه القادة قادة الحرب.
وبصفة "الحب" هو خلاص الإنسانية، خلاص الفرد نفسه، وخلاص الجميع، فلم يغفله صلاح عبد الصبور فى كل ما كتب، ناشرًا إياه، وملوحًا به ضد الفقر والألم، منتصرا لنموذج الحب الذى يحاصره الفقر والأسوار والمجتمع.
ففى قصيدته البديعة "لحن" التى يبدأها بـ:
جارتي مدت من الشرفة حبلاً من نغم
نغم قاس رتيب الضرب منزوف القرار
نغم كالنار
نغم يقلع من قلبي السكينة
نغم يورق في روحي أدغالاً حزينة.."
هذا الحب المشتعل فى روح الشاعر بالطبع محاصر وبعيد المنال وبينه أسوار وبحار، وهو فرد مجرد فرد معذب ومقيد وفقير لم يبرح محله، ولا يملك حريته التى تؤهله لنول محبوبته، يقول "عبد الصبور":
بيننا يا جارتي بحر عميق
بيننا بحر من العجز رهيب وعميق
وأنا لست بقرصان، ولم اركب سفينه
بيننا يا جارتي سبع صحارى
وأنا لم ابرح القرية مذ كنت صبيا
ألقيت في رجلَي الأصفاد مذ كنت صبيا
أنت في القلعة تغفين على فرش الحرير
وتذودين عن النفس السآمه
بالمرايا الفارس الأشقر في الليل الأخير
ثم يجرى الشاعر، حوارًا بديعًا، رقيقًا كاشفا الألم والخيبة التى يمنى بها الإنسان، ثم يقدم بيانه الإنسانى الرفيع، بيان الفرد فى مواجهة السلطة بين الهشاشة الإنسانية فى مقابل الصلافة الحاكمة، بيان الباحثين عن النور والمكافحين من أجل انتصار الإنسانية وقيم العدل والحق:
جارتي ! لست أميرًا
لا، ولست المضحك الممراح في قصر الأمير
سأريك العجب المعجب في شمس النهار
أنا لا أملك ما يملأ كفيّ طعامًا
وبخديك من النعمة تفاح وسكر
فاضحكي يا جارتي للتعساء
نغّمي صوتك في كل فضاء
وإذا يولد في العتمة مصباح فريد
فاذكريني ..
زيته نور عيوني وعيون الأصدقاء
ورفاقي الطيبين
ربما لا يملك الواحد منهم حشوَ فم
ويمرون على الدنيا خفافاً كالنسم
ووديعين كأفراخ حمامة
وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد
عبء أن يولد في العتمة مصباح جديد
بالطبع لا يمكن لنا فى هذه المساحة استقصاء الإنسانية فى شعر صلاح عبد الصبور، وإلا لتطرقنا لكل قصائده وكل ما كتب وأبدع، ولكن أختتم قصيدتى بالنشيد الذى ضمنه فى مسرحيته الفريدة "مأساة الحلاج"، هذا النشيد الذى دوى بها الشاعر ملخصا مأساتنا جميعا، مأساة بشر مقهورين مهمومين يولدون فقراء ويموتون فقراء، منطلقا فيه كعادته من الفرد للجميع، من أنا إلى نحن:
"أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة و المنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، و لا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً ـ بذات مساء ـ سعى نحو حضن فقيرة
و أطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزاني علي الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا، وشبت خطاهم.."