طلعت حرب الذي أقصده هو فيلم وثائقي للمخرج والناقد والباحث السينمائي الكبير سيد سعيد، حمل اسم "تعظيم سلام" وشاهدته للمرة الأولى في جمعية نقاد السينما المصريين منذ سنوات قاربت على الخمس ، ومن يومها لم يعرض في مكان آخر وظل السؤال يلح علىّ "أين طلعت حرب؟".
الفيلم .. وثيقة سينمائية ليس فقط عن رائد الاقتصاد المصرى، ولكن ــ والأهم من وجهة نظرى ــ عما حدث طوال سنوات الردة التي بدأت منذ عام 1970 واستمرت حتى يومنا هذا .
سيد سعيد .. لم يقتحم عالم طلعت حرب ليحكي لنا عن تاريخه – وإن كان الفيلم لم يغفل معلومة عن الرجل – لكنه وبحساسية كاميرا لاقطة لأدق التفاصيل، و بوعي رجل يعرف أن ما تم في مصر من تجريف كان متعمدًا، يبدأ مشاهده الأولى بلقاءات يجريها مع مواطنين عابرين أسفل تمثال الرجل، ويسأل: هل تعرف من صاحب هذا التمثال؟! .. وتأتي الإجابات لتثير في البداية ضحكك، ولكن رويدًا رويدًا تتحول الضحكات إلى نغزات في القلب لتسأل معها نفسك"هل ما أسمعه من إجابات حقيقة .. هل لم يعد أغلب المصريين يعرفون صاحب التمثال .. هل أمسى طلعت حرب مجرد اسم لشارع شهير بوسط العاصمة؟! .
من هذه البداية الطعنة سيبدأ سيد سعيد في تتبع مسيرة الرجل، ليصفعنا ويصفع المسئولين عن جهل من شاهدناهم في المشاهد الأولى، ليس فقط بحقيقة ما فعله طلعت حرب في الاقتصاد المصري، ولكن ـــ وهو الأخطر ـــ ما فعله حكام الردة بتركة طلعت حرب ومن بعدها تركة ثورة يوليو طوال خمسينيات وستينيات القرن الماضي .
سيحدثك الفيلم عن مغامرة طلعت حرب المحسوبة وعن كيفية مناهضة الاستعمار باستقلال اقتصادي عاش لسنوات وكان يمكن أن يبقى لقرون، وسيحدثك عن كيف تم إنشاء البنك، وشركة التمثيل والسينما، وكيف أقام مصانع الغزل والنسيج.
وهنا تحديدًا ستأتيك الطعنة الأكثر إيلامًا حين يصر سيد سعيد أن يزور هذه المصانع الآن حيث يتناقض التاريخ الزاهر مع صورة الواقع البائس، ماكينات متوقفة، مخازن فارغة، عمال يستجدون العمل ولا يجدون .
أجمل ما في فيلم سيد سعيد ليس فقط معلوماته ولا فقط ما تعكسه الصورة من جهد مضني بذله، وتمثل في قراءة متأنية للتاريخ والاهتمام بورقة منسية هنا أو هناك، وليس فقط في علاقة حميمة بين كاميرا ذكية المشاعر وبين الوجوه والآلات والحجر .. لكنه وإلى جانب كل ذلك يبقى أن الأجمل هو ذلك الإحساس الذي يصلك عبر الفيلم، والذي يقول وبوضوح .. نعم نحن نستطيع .. فذاك هو الشعب الذي كان، وهذا هو الشعب الذي صنع ثورة يناير .. وذلك هو الشعب الذي سيكون .
والآن .. هل مازال سؤالي حول "أين فيلم طلعت حرب"؟ دون إجابة .. أم أن بعضا من الإجابة يكشفها الفيلم نفسه؟ فمن تسببوا عن عمد في إخفاء وتجهيل اسم الرجل وتاريخه، ومن تسببوا في تعطيل مشروعاته، ومن تسببوا في تحويله إلى مجرد يافطة على أول الشارع وآخره .. هم أنفسهم من لا يريدون لفيلم سيد سعيد أن يرى النور ويراه الناس .
وأخيرا .. هل سمع السيد وزير الثقافة عن " تعظيم سلام " ؟ .. إن لم يكن فها نحن نقول له .. ولنرى .