ما أن أقرّ مجلس النواب قانون بناء الكنائس، وخرجت خفافيش التطرف والأصولية لتبصق "رغاوى" الكراهية، وبدأت أبواق الإرهاب تبث أصوات الفتنة، أبرزها ما صرح به عبد المنعم الشحات المتحدث باسم الجبهة السلفية حول تحريم عمل المسلم فى بناء الكنائس!
فى إطار كتاباتنا عن تجديد الخطاب الدينى، سبق أن تعرضنا لفتاوى تحريم بناء الكنائس والمعابد، ترافق ذلك مع بدء مناقشة القانون بالبرلمان، وانتهينا إلى خرافة التحريم، مستعرضين عددًا من الرؤى الأصولية المانعة لبناء أو ترميم الكنائس فى البلاد العربية أو البلاد ذات الأغلبية المسلمة، كاشفين أن جلّ الآراء كما بنيت على تعصب ضد المختلف دينيًا من قبيل رفض الآخر، بُنيت أيضًا على رؤى تراثية وآراء فقهية قديمة، إذن هل ما صرح به الشحات مجرد فتوى متطرفة تخص المتحدث باسم الجبهة السلفية؟
ما صرح به الشحات ليس ابتداعًا منه، ربما يخرج علينا بعض الدعاة ليتنصلوا من "حديثه"، وربما يرد آخرون عليه بفتاوى مضادة ومغايرة لموقفه، لكن نستبعد أن يقترب أحد من الجذر التراثى لفتوى الشحات، وقد يعترض كثيرون على تعرضنا لذلك الجذر بزعم رفضهم لازدراء علماء التراث!
بداية، نؤكد احترامنا لكل العلماء، تراثيين ومعاصرين، واحترامنا لهم يدفعنا إلى مساءلتهم ومساءلة ما ورثناه عنهم، لنعرف أن مصيبتنا ليست فى الشحات وحده، وإنما مصيبتنا أبعد من ذلك، تمتد إلى جذور بداية المدارس الفقهية، لندرك أن التراث الإسلامى بشكل عام، والمتعلق بعلاقتنا بالآخر الدينى وشركاء الوطن، يحتاج لإعادة تنقيته، وتهذيبه من الشوائب ومن الرواسب التى لا تمت إلى المنطق والعقل بصلة، آملين أن نصل إلى مرحلة يكتسب العقل فيها حقه خلال النظر فى قضايا التراث الدينى.
الشافعى يدشن لتحريم العمل بالكنائس
هل ترفض فتوى الشحات؟ هل تعتبرها متطرفة؟ هل تعتبر الشحات بسببها متطرفًا؟ إن كانت إجابتك نعم، فما قولك أن علماء تراثيين كبار يمتازون بسطوة شعبوية "فائقة" رددوا كلام الشحات، بل قدّمت آراءهم لنا بوصفها "صحيح الدين"، وأولهم الإمام الشافعى ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة "150هـ-204هـ"!! وهل تعلم أن المذهب الحنبلى يحرم الإجارة فى الكنائس، أى العمل بأجر فى كنيسة؟!!
خلال كتاباتنا الأخيرة، كثيرًا ما تعرضنا لبعض فتاوى الإمام التى لا يستند فيها إلى أدلة فى أغلب المرات، بل يصدرها كمشرع ومصدر للفتاوى، هنا يُحرم عمل المسلم فى بناء الكنائس أو ترميمها أو إصلاح أى شىء فيها، ويقول ما نصه عن المسيحى "ولو أوصى بثلث ماله، أو شىء منه يبنى به كنيسة لصلوات النصارى، أو يستأجره خدمًا للكنيسة، أو تعمر به الكنيسة، أو يشترى به أرضًا فتكون صدقة على الكنيسة، أو تعمر به، أو ما فى هذا المعنى كانت الوصية باطلة"، ثم أورد "أكره للمسلم أن يعمل بنّاء، أو نجارًا، أو غير ذلك فى كنائسهم التى لصلاتهم"، لا أعلم لماذا يرى الشافعى كراهة فى الأمر على المسلم، ولماذا يحكم نيابة عن الناس؟ المصيبة الكبرى أنه جعل هواه سندًا للتشريع، وهو ما اعتاد عليه الشافعى، ونوصى بقراءة ما كتبه المفكر الراحل على مبروك، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، الذى انتهى بالتحليل إلى تأليه صاحب المذهب المعروف بالوسطية إلى تأليه ذاته!!
بعد الشافعى، يأتى ابن تيمية "661-728هـ" منظرًا لما نسميه بفقه رفض الآخر وكراهيته، لتذهب أغلب فتواه نحو العنف تجاه المختلف دينيًا حتى وإن كان شريكا وطنيًا ومسالمًا، فيقول مثلًا "أنَّ الإمام لو هدَم كلَّ كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسَّواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدًا فى ذلك ومتبعًا فى ذلك لمَن يرى ذلك؛ لم يكن ذلك ظلمًا منه، بل تجب طاعتُه فى ذلك ومساعدته فى ذلك ممَّن يرى ذلك، وإن امتَنعوا عن حُكم المسلمين لهم كانوا ناقِضين العهدَ وحلَّت بذلك دماؤُهم وأموالُهم"!!
عليك أن تتخيل فقيهًا يستحل دماء الناس وأموالهم فقط لأنهم دافعوا عن دور عبادتهم أراد حاكم ما أن يهدمها، فقط لأن الحاكم ارتأى له ذلك "مجتهدًا فى ذلك"، أى موروث فقهى هذا؟! إنه الموروث الذى استند عليه كثير من الحكام العرب فى ظل ما يعرف بدول الخلافة لاضطهاد المسيحيين أبرزهم مروان بن محمد من دولة بنى أمية والمأمون بالدولة العباسية والحاكم بأمر الله سادس الخلفاء الفاطميين.
انطلاقًا من الوسطية المزعومة نقل ابن تيمية "661-728هـ"، أنه من غير الجائز أن يؤجر المسلم الأرض الموقوفة على الكنيسة، كذلك شراؤه ما يباع للكنيسة، "كى لا يعينهم على ما هم فيه"!!، هنا نحن إزاء خطاب لا يقصى الآخر فقط؛ بل يعاديه ويعلنه العداء الدينى حتى وإن كان شريكًا فى الوطن. وينقل ابن تيمية أن "مذهب أحمد فى الإجارة لعمل ناقوس ونحوه، فقال الآمدى، (يقصد سيف الدين الآمدى الحنبلى ثم الشافعى)، لا يجوز رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة، أو بيعة، أو صومعة، كالإجارة لكتب كتبهم المحرفة"، لاحظ عبارة لا يجوز رواية واحدة، هكذا دون دليل أو سند فقط لأن الآمدى قال وأحمد ذهب.
الشافعى يلغى مساحات الاجتهاد والرأى
الشافعى الذى انتفضت المؤسسة الدينية منذ أكثر من 22 عامًا ضد المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد لمحاولته كشف عورات منهجه الفقهى وتأثيراتها، وكان أبو زيد اهتم بتحليل جهد الشافعى وتأثيراته الفقهية والفكرية فى التاريخ الإسلامى، فى كتابه «الامام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية» 1992، والذى يمثل قمة جهود نصر فى نقد الخطاب الدينى، ويؤكد فيه أن الثابت تاريخيا أن الشافعى أسس الوسطية فى مجال الفقه والشريعة، وأسس أبو الحسن الأشعرى الوسطية فى مجال العقيدة، أما أبو حامد محمد الغزالى فقد أسسها فى مجال الفكر والفلسفة، استنادًا إلى تأسيس كل من الشافعى والأشعرى.
وينتقد أبو زيد الشافعى فى تقريبه بين السنة النبوية والقرآن، ووضعهما فى نفس المرتبة، ويجعل الشافعى الإجماعَ مرتبطًا بالقرآن والسنة، لاغيًا مساحات الاجتهاد والرأى، ويأخذ على الإمام مواقفه الواقعة، فى أغلبها، فى دائرة المحافظة على المستقر والثابت، مفسرًا موقف الشافعى بالوسطية والتوفيقية تارة، وبالنفعية الأيديولوجية فى فكره تارة أخرى، لكن رؤية مؤلف كتاب «تأسيس الأيديولوجية الوسطية» لم تسلم من النقد، ليس على المستوى الفكرى فحسب، وإنما على المستوى الشخصى، والتشكيك فى إيمانه وعقيدته، وكأن الاختلاف مع الشافعى أو غيره يعنى الخروج عن الدين، ونتساءل أليس الشافعى وصحابته رجالا؟ كذلك نصر ورفاقه، ولكل منهم رأيه واجتهاده.
طرابيشى: مشروع الشافعى سمح بالكذب على الرسول
وبعد أطروحة نصر، تأتى أطروحة المفكر السورى الراحل جورج طرابيشى «1939-2016» فى كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث - النشأة المستأنفة» 2010 ليخصص مبحثًا عن «وسطية الشافعى»، انطلاقًا بالأساس للرد على محمد عابد الجابرى، لكنه وسع دائرة المناقشة لتشمل كتابات الجابرى ونصر حامد أبو زيد وأحمد أمين وغيرهم، وتلخصت نتائج طرابيشى فى كون الشافعى ارتكب «جريرة» فى حق الفكر العربى والإسلامى، بوضعه تاريخ العقل وراءه لا أمامه، وأسقط عنه صفة التاريخية ليحيطه بالمقدس الذى يحكم التاريخ ولا يحكمه التاريخ.
كما رأى مؤلف كتاب «سبات العقل فى الإسلام» أن مشروع الشافعى سمح لآخرين بـ«الكذب على الرسول وأن يتمادوا فى الكذب عليه، وقد نصبوا أنفسهم فى حقيقة الأمر مشرعين ونسبوا إلى تشريعهم مصدرًا إلهيًا وذلك بقدر ما نسبوا إلى الرسول، ومن ثم إلى الله عن طريق الرسول باعتبار الرسول لا ينطق عندما ينطق إلا بوحى من الله طبقًا للتأويل الذى كرسه الشافعى» وحتى يتأتى ذلك شُرع فى قرأنة الحديث كوحى غير متلو بتعبير الشافعى أيضًا.
السلفيون يلجأون لـ"التقية"
الشحات ليس السلفى الوحيد الذى يحرم العمل فى بناء الكنائس، فجميع التيارات السلفية لا تحرم فقط العمل فى بناء الكنائس، بل تجرم تمامًا حراستها أو حتى زيارتها، ومع ذلك تمارس التيارات الأصولية "التقية"، ويمارسها السلفيون يوميًا، ويتخذون منها وسيلة لمداراة عدائهم تجاه شركاء الوطن، وتلعب التيارات السلفية لعبة أساسها «المراوغة»، إذ تهاجم المختلف دينيًا وتطعن فى عقيدته فى كتب شيوخها وفى قاعات الدرس وبمعاهدهم ومساجدهم، فيما يجامل قياداتها بعض القساوسة علنًا وأمام وسائل الإعلام!
الوطن لا مكانة له فى الأدبيات الأصولية إذ يغدو الدين "وطنًا" فى عملية واضحة لخلط المفاهيم، وتسقط طبعًا كل الأقعنة التى يتمحك فيها الأصوليون فى مصر تحت التعايش السلمى، فأولئك يعتبرون ابن تيمية والأصوليون من قبله ومن بعده "جمهور العلماء" الواجب أتباعهم، حتى وإن خلت "فتاواهم" من أسانيد دينية.