كسر الشباب في شرم الشيخ ستة أعوام من العزلة متمردين على ثقافة "محلك سر" ليتقدموا لإدارة الملفات الشائكة.
أسهم المؤتمر في في تغيير الصورة الذهنية عن الأوضاع القائمة في مصر، وكما أسهم في وقف نزيف الهيبة المؤلم
الشباب إذا دخلوا قرية جملوها والمكسب الحقيقي في هذه الأيام الثلاثة هو إضافة وجوه جديدة في الحياة الراكدة
ثلاثة أيام، هي المدة التي قضيتها متابعا لمؤتمر الشباب الوطني الأول في شرم الشيخ، وفي الحقيقة فإن ما حدث في هذا المؤتمر يستحق أن نقف أمامه بتأمل، فقد أسعدني أن أرى في وجوه أكثر من ثلاثة آلاف شاب ابتسامة حقيقية وأملا في أن يحدث في مصر بعض من تغيير، والتغيير هو الهدف المشروع لأي حراك اجتماعي، سواء كان هذا التغيير مؤسسيا أو شعبويا، وما أحوجنا إلى حدوث هذا التغيير دون أن يدفع الشعب تكلفة إضافية من وقته وماله ومستقبله.
كسبت مصر العديد من المزايا النسبية التي كانت في أًمس الحاجة إليها، فقد اجتمع أكثر من 3 آلاف شاب من مختلف محافظات مصر بغالبية ممثلي النخب السياسية والإعلامية والثقافية، ليضيف المؤتمر ملمحا مهما للحياة السياسية المصرية، وهو ملمح الحوار الحضاري البعيد عن شبهات التزلف أو الترصد، وهذا ما أعده نصرا سياسيا للرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه والفريق المنظم للمؤتمر والشباب المشاركين فيه، الذين تميزوا بروح حميمية صادقة ساعدتهم ليقوموا بجهد كبير في التنظيم، فالشباب إذا دخلوا قرية جملوها، ولابد أن نعترف في البداية أن تنظيم حدث به آلاف المشاركين أمر شاق ومرهق ولهذا فإني أعتبر مرور هذه الأيام الثلاثة دون وقوع مشكلات كبرى أمرا حميدا يجب أن نشيد به، خاصة أن جميع من شارك في تنظيم هذا المؤتمر شباب يقومون بهذه التجربة لأول مرة ومن المؤكد أن بعض الهفوات التي ظهرت في التنظيم ستتلاشى تلقائيا بعد أن يكتسبوا الخبرة اللازمة بالتجربة والخطأ، وهو أمر يجب أن نرحب به ونعد المجتمع لتقبله محرضين على خوض مثل هذه التجارب التي من المنتظر أن تدرب الشباب على القيادة، وتكسبهم خبرات العمل الجماعي، ليكسروا بهذا ستة أعوام من العزلة متمردين على ثقافة "محلك سر" ليتقدموا لإدارة الملفات الشائكة مضيفين بتواجدهم وجوه جديدة في الحياة الراكدة.
نقطة تميز هذا المؤتمر الحقيقية هي حضور جميع ممثلي الأجهزة التنفيذية وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولهذا أعتقد أن مجرد استماعهم إلى نبض الشباب بشكل مباشر سيكون له بالغ الأثر في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، وأعتقد أن هذا المؤتمر سيكون أداة ضغط إضافية على صناع القرار لعلمهم أنهم سيقفون يوما أمام "اتحاد ملاك المستقبل" الذين لم يتورعوا عن استجوابهم ومساءلتهم دون خوف أو احتقان.
هنا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا كنا في احتياج حقيقي لهذا المؤتمر، وما الذي كسبته مصر منه؟ في الحقيقة فإنى أرى أن الفوائد التي كسبناها بهذا المؤتمر عديدة، وهنا لن أتحدث عن التوصيات التي خرج المؤتمر بها على أهميتها، لكني سأتوقف أمام صورة مصر التي ظهرت في شرم الشيخ، والتي أزعم أنها ستسهم في تغيير الصورة الذهنية عن الأوضاع القائمة في مصر، وتوقف نزيف الهيبة المستمر في مصر، فقد أصبحت مصر لأول مرة منذ فترة طويلة دولة حقيقية، يشترك في صياغتها جميع أفراد الشعب، معارضة وسلطة، شباب وشيوخ، خبراء ومبتدئين، حكام ومحكومين، نواب الشعب والشعب، القيادات الوسيطة والقيادات العليا، القروي يقف بجوار الحضري، والمسلم بجوار المسيحي، صورة كانت غائبة من 30 يونيو، صورة أبهرت العالم سابقا، وحينما غابت انهال علينا العالم ضربا وطعنا.
في هذا المؤتمر انصاع الرئيس السيسي إلى مطالب الشباب، ورأيناه لأول مرة، يتحدث عن ضرورة تعديل قانون التظاهر الذي طالما نادينا به، وفي الحقيقة فإن المطالبة بتعديل قانون التظاهر لم يكن بسبب اشتياقنا للمظاهرات ولا حبنا لها كما تساءل الرئيس مازحا، لكنه كان مطلبا ضروريا من أجل كفالة قيمة "الحرية" وحمايتها، وهي القيمة التي لا يستقيم الوضع بدونها، وهي القيمة التي تحمي الفكر والإبداع والبحث العلمي، وتعديل قانون التظاهر في هذا السياق يصبح ضروريا من أجل تحسين صورة مصر عالميا، من أجل خلق مسار مدني للتعبير عن الرأي والتنفيس عن الغضب وتعديل المسار قبل فوات الأوان.
كسبت مصر أيضا منبرا حرا جديدا يضاف إلى منابرها المتعددة للتعبير عن نبض الناس، وفي الحقيقة فقد كنا في أمس الاحتياج إلى هذا المنبر بعد أن غرقت بعض القنوات الرسمية للتعبير عن الرأي في النفاق القاتل أو التصيد المريض، فالبعض يتخيل أن مجرد مناقشة المشكلات أمر خارج عن فلسفة الوقوف مع الدولة وهي الأسطورة التي وضعت نهايتها في مؤتمر الشباب، كما أستطيع أن أقول إن هذا المؤتمر سد فجوة كبيرة تركها مجلس نواب الشعب الذي أصبح لا يمثل الشعب مرتضيا الغرق في تصريحات النواب الفارغة والصراعات المتدنية، وهنا يجب أن أؤكد أنه في هذا المؤتمر نوقشت العديد من القضايا التي لو تلفظ بها أحد أعضاء مجلس النواب لهاجمه بقية الأعضاء بضراوة مستبيحن دمه، وفي الحقيقة أيضا فإن مستوى الرقي في الحوار الذي حدث في هذا المؤتمر أمر يجب أن يثير غيرة السادة أعضاء مجلس النواب وأن يحفزهم نحو الرقي بحواراتهم وتوسيع أفقهم فيتقبل القضايا المختلفة ليكونوا بحق "نواب الشعب".
في النهاية أريدك أن تنظر معي إلى هذه الصورة من بعيد، هناك في شرم الشيخ كان يجلس رئيس الجمهورية مع ثلاثة آلاف شاب، وأكثر من 500 شخصية عامة من مسئولين وسياسيين وحكماء وخبراء ومثقفين وإعلاميين ورجال دين، جلس معهم ثلاثة أيام كاملة، يناقشهم ويناقشونه، يسألهم ويسألونه، يعترضون على قرارات أصدرها، ويطالبونه بإصدار قرارات أخرى، يهاجمونه في وجهه بأدب ورقي، فيرد عليهم بصبر وصراحة، وفي النهاية يخرج الجميع بتوصيات في زي قرارات، وتوصيات ملزمة، محددة بسقف زمني، تتنوع مساراتها ما بين المسار السياسي والأمني والتنموي والإنمائي، ولن أقول مثلما يقول البعض إن هذا الاجتماع هو الأول من نوعه، لكني أستطيع أن أزعم أنني رأيت في هذا المؤتمر حوارا وطنيا حقيقيا يتحقق للمرة الأولى، ستقول لي ألم تلاحظ بعض السلبيات؟ وسأقول لك: نعم لاحظت، لكني في الحقيقة أرى أن الإيجابيات أكثر وأجدى، كما أرى أن هذه التجربة تجربة وليدة كفيلة بأن تصحح نفسها بنفسها، كما أنني كنت كلما أرى بعض الأمور السلبية كنت أنظر في وجوه الشباب المتحمس الممتلئ بالأمل لأتذكر قول الشاعر الجميل مصطفى إبراهيم "تحتك فيه ناس عايزه الأمل .. مش عايزه سيبهولهم"